on
Archived: صالح ملص: الراقصات تغرقن في السارين
صالح ملص: كلنا شركاء
في داخل صندوق أسود لا شكل محدد له، لكن مساحته أصغر من مساحة رقعة الشطرنج بكثير، تمارس المرأة كل ثانية بكافة حواسها الشيء الوحيد الممكن هنا، ليست ممارسة لطقوس التأمل والتمحيص لفهم المعرفة، ليست ممارسة لصنع طائرة ورقية ولاحتى اللعب بالتراب، بل هي ممارسة باتت أساس وجودها في مجتمعاتنا المشوشة فكريا، وحدها التبعية التي تخلقها السلطة الذكورية هي الممارسة الحقيقية التي بإستطاعة المرأة القيام بها الآن في داخل معظم المنظومات الاجتماعية، اعتقال وقتها الخاص في زنازين آراء أشبه بالجيفة، ومنعها من حق الإختيار الذي يقف بين توصيف أخلاقي، “الحرام” و “العار”، لا بل هي سجينة خيارات الرجال وحدهم، بصياغاتهم التي ليس للمرأة من حضور إلا من خلال أفكارهم التي تحيل على الرجال وليس بدلا لهم أو عنهم، وحصار أفكارها بازدحام المفردات المعلبة والجاهزة داخل أذهان الذكور التي تنسف أي مبادرة نسوية تنشد خلق القليل من الخصوصية والحقوق الإنسانية الطبيعية لهن، باتت الموازين الفكرية الفارغة من الصواب والمنطق هي من ترسم هياكل متآكلة متسخة بالعفن لدرجة طمست معها حياة المرأة فلا تميز بينها وبين الجماد.
في مجتمع الكل يعتقد أنه الأصح من غيره، والكل يقيم الكل ويزاود بأخلاقه على الآخر، هناك مئات القصص لنساء يدفعن حياتهن بأكملها في كل يوم بسبب نتائج غير مرتبطة بقراراتهن..
يسيطر النمط الذكوري على “ربة المنزل” المتمثل بالزوج، لا كما يسيطر لحن ساحر ومجنون على ذاكرة موسيقار، بل كنشاز يعكر صفاء طبيعتها، ينحت شخصيتها لتنقلب من إنسان يؤمن بأفكار وآراء ومبادئ ثابتة إلى تمثال بلا روح يعكس صيغة حياة تشبهه، يُصيبها الجمود القاتل الذي ينهي حياتها المهملة بين أثاث البيت، مطرودة من الحياة قابعة في النسيان، هذه السيطرة التي تشعرها بالعدم في كل شيء، بفقدانها للشغف ولأن ترسم ملامح حياتها كما تحب، فتعيش من أجل الزوج وتنسى حياةً خُلِقتْ من أجلها، ثم تُنسى.
لطالما أطلقنا أحكامنا المسبقة حول اللواتي دخلن المعتقل السياسي من ناشطات سياسيات ومعتقلات رأي، بالرغم من العذاب الجسدي والنفسي اللذين تعيشهما المرأة داخل سجون التعذيب بفترات زمنية ليست بقليلة، فمنذ لحظة اطلاق سراحها تدخل مباشرة دوامة السياقات الاجتماعية التي تُلبس المرأة المعتقلة ثوب العار، بدلا من الوقوف بجانبها ومساندتها والأخذ بخاطرها، بسبب ما يُقرأ عن أهوال الموت في أدب السجون أو ما يُسمع عن جرائم الإغتصاب الجنسي في غرف التحقيق، ولا تقف صفة العار عند هذا الحد، وإنما في بعض الأحيان لا تسلم المرأة المعتقلة من ألسنة الناس طوال حياتها، فمن يستطيع الخروج من دوامة العفن الفكري بعدما يصل داخلها؟، فقد يورّث العار لأولادها وأحفادها بعد موتها..
تخفي المرأة في جيب سري من جيوب روحها المهترئة الكثير من العناء والأسى اللذان تراكما من هول جحيم الواقع، تأخذ على عاتقها عبء الذكورة الثقيل والذي لا يعترف به المجتمع ولا ينصفها قانون، تكون ضحكتها يابسة كجثة دُفنت منذ زمن بعيد، ولم يبقى من صوتها سوى بحة الحزن فيه. كلما حاولت المرأة النهوض بدوافعها تجاه خلق طقس خاص لها، فإن زورة واحدة من زورات الواقع الذكوري تكفي لجعلها كالصنم مثلما أن من شأنها أن تكون خرساء فلا تنطق، فكأنها ملك خاص للرجل، في أغلب الحالات والسلوكيات الواقعية تتضمن صفة الاحتواء، فطابع الموروث الذكوري يمثل المرأة بالكائن الضعيف الذي من اللازم احتوائه برجولته ورغباته وجوفه، لتضيق فرصة نجاة المرأة من الجحيم.
إلى جانب السلطة الذكورية التي تفرض العقوبات على المرأة إذا لم تنساق وراء أهواء المجتمع، هناك الأكثر مرارة، وهو بقايا الذكورة في عقول كثير من الأمهات اللواتي لهن دورا أساسي في الظلم السائد والقائم إلى الآن على نساء مجتمعاتنا، إذ أن المرأة حين تصبح أما، فإنها تعود لتخلق من ابنها ذات الرجل الذي ظلمها وكان سببا في معاناتها، وتلقنه ذات الثقافة السوداء وذات العقلية التي تربط كون المرأة بمصير الرجل، حيث أنها تضخ ذات الأفكار السامة في ذهن ابنها، لتخلق منه توأما يشابه كل الرجال الذين تبغضهم، وتحجب ضوء التمرد عن ابنتها أو اختها أو جارتها أو أي امرأة في محيطها الاجتماعي، لتعمل على هلك إرادتها وانقاص حقها في الإختيار وتعيق حياتها وتكسر من قواها النفسية والعقلية، هكذا بعض النساء، يعشن الإزدواجية على أصلها، لتصبحن أكثر عداوة من الرجال للمرأة، حتى يتلاشى دعم النساء لبعضهن البعض، ويصبح بلاء المرأة مرأة.
في روح المرأة راقصة تتقن الرقص على خيط الحياة بإيقاعات مقدسة آتية من السماء، وفي قوالب مجتمعنا الغني بالغازات السامة، تغيب شمس الوعي وتتلاشى خلف سحابة الجهل الكبيرة، تُستخدم الأنوثة لقياس مدى ذكورة المجتمع، لتغرق تلك الراقصة في السارين وتموت اختناقا لترقص مع صمت القبور.