Archived: د. معتز محمد زين: جيش الفتح السياسي .. بات حاجة ملحة

 

د. معتز محمد زين: كلنا شركاء

في مقال سابق لي بعنوان ” نحو مشروع اضطراري يفرضه الواقع ” كنت قد طرحت ما يمكن اعتباره نواة لمشروع  يهدف للخروج من حالة الاختناق التي دخلت فيها الأزمة السورية والتي تدفع الطائفة السنية فاتورتها الأكبر ، وذلك عبر تشكيل كيان سني قوي يشكل حاجزا أمام التمدد الطائفي الإيراني الذي يجتاح المنطقة ويستهدف الطائفة السنية بالدرجة الأولى ، وسياجا لحماية مصالح هذه الطائفة ووقف النزيف المتواصل الذي تتعرض له ديمغرافيا واقتصاديا ، وجسرا يصل ما انقطع بينها وبين بقية مكونات المجتمع السوري على أساس المساواة والندية وليس على أساس التبعية  دون أن يكون القصد من ذلك الوصول إلى تقسيمات طائفية داخل الوطن على شاكلة ما حصل في لبنان .. كنت أتمنى أن يلقى هذا الطرح صدى عمليا لدى الشخصيات والجهات القادرة على تحريك مثل هذا المشروع .. لكن يبدو أن صوت المدافع والقذائف الروسية بات أقوى من أي صوت آخر  ..

ولأن الطرح لم يكن من باب الترف الفكري والاستعراض ، ولأن الزمن بالنسبة لنا يعني مزيدا من الدمار والدماء ، ولأن النظام العالمي العاهر مستمتع بمتابعة هذا الفيلم الدموي ولا يبدو حتى الآن أنه مستعد لرؤية المشهد الأخير منه ، كان لا بد لنا من البحث عن حلول أخرى ومحاولة تقديم طرح جديد تبرئة للذمة من جهة ، وتجنبا للوصول إلى طريق مسدود والسقوط في هاوية الإحباط من جهة أخرى ..

من الواضح جدا أن سوريا اليوم قد تحولت إلى ساحة كبيرة لتصفية الحسابات وكسب النقاط وحسم الصراعات بين القوى الكبرى الدولية والإقليمية ، وأن السوريين فقدوا الخيوط الأساسية المحركة للأزمة ، ولعل غياب التمثيل السوري – من النظام والمعارضة – في مؤتمر فيينا الأخير يوضح إلى أي درجة باتت تلك القوى والدول مهيمنة على قرار حسم الأزمة السورية .. وواضح أيضا أن لهذه الدول إمكانات عسكرية ضخمة يصعب على الفصائل العسكرية المناهضة للأسد مقاومتها جميعا .. لا بد إذاً من أجل تحقيق أهداف الثورة السورية من إيجاد نوع من التفاهمات والتحالفات وتقاطع المصالح مع تلك القوى أو بعض منها للمساعدة على إزاحة الأسد ونظامه وإعطاء الفرصة لإعادة بناء الدولة من جديد .. لقد بات واضحا أنه من الصعب جدا إحداث تحول جذري في مسار الأزمة يضع نهاية لشلال الدماء الذي أرهق السوريين ودفعهم لمغادرة بلادهم إلى أي جهة تؤمن لهم الحد الأدنى من الحرية والعيش الكريم دون التفاهم مع تلك الدول .. هذا واقع لا مهرب منه ..

 لا يمكن بالطبع لهذه الدول – حتى الراغبة منها بإنهاء الأزمة – أن تتفاوض أو تنسق مع كل فصيل على حدا .. لا بد من وجود جهة سياسية مركزية تمثل معظم فصائل الثورة .. تتحدث باسمها وتدافع عن تحركاتها وتشكل غطاء سياسيا وإعلاميا لعملياتها وتؤمن احتياجاتها اللوجستية والعسكرية عبر علاقاتها الدولية وتعمل على كسب الرأي العام العالمي لمصلحتها ، وبغياب مثل هذه الجهة فإن الدول ستكون أمام خيارين : إما أن تستغل حاجة  الفصائل لخدمة مصالحها فتدعمها عندما تريد الضغط على الأسد وتوقف دعمها وربما تدعم عدوها عندما تحرز الفصائل انتصارات مهمة ، الأمر الذي يستنزف قدرات هذه الفصائل دون الوصول للهدف المنشود ، أو – وهو الأخطر- أن يؤدي غياب جهة مركزية واضحة ممثلة للثورة السورية إلى فسح المجال أمام الأسد لطرح نفسه كجهة وحيدة قادرة على التفاهم مع تلك القوى وتأمين مصالحها  في المنطقة وخاصة بوجود تنظيم الدولة وممارساته الحمقاء المشبوهة التي وصلت لقلب أوروبا والتي تصب في مصلحة النظام وتساعده على طرح  نفسه كحليف اضطراري لتلك الدول ، وهذا ما عبر عنه مسؤول اسباني منذ أيام بقوله أن التعاون مع نظام الأسد قد يكون أهون الشرور ..

لا تتحرك سياسات تلك الدول بدافع إنساني أو أخلاقي ، فالمأساة السورية بلغت حدا يصعب لأي رافعة أخلاقية أن تحملها ، ولو كانت سياسات تلك الدول تقيم أي وزن للأخلاق أو القيم الإنسانية لهزت تلك المأساة أركانها ودفعتها إلى تدابير متاحة تساعد على إنهاء المأساة .. ما يحرك سياسات تلك الدول هو فقط مصالحها .. ولأنها باتت طرفا أساسيا في قرار إسقاط نظام الأسد لا بد من تحريك مصالحها والضغط عليها من خلال تلك المصالح .. الأمر الذي يصعب تحقيقه إلا من خلال تشكيل هيكل سياسي واضح يشكل الجناح السياسي للثورة وصلة الوصل بين الثوار على الأرض وبين تلك الدول والقوى .. ولعل من نافلة القول  أن الائتلاف الوطني السوري بشكله الحالي ليس الجهة المقصودة بهذا الطرح ، ذلك أن الجناح السياسي لا بد أن يكون مرتبطا تنظيميا وعضويا بالجناح العسكري ، فقوة السياسي والمفاوض تنبع من قوة الجناح العسكري الذي يتحدث باسمه .. يمسك القرار السياسي من يمسك الأرض ويتحكم بمكوناتها .. والائتلاف السوري فشل فشلا ذريعا في إنشاء جسر بينه وبين الفصائل المجاهدة على الأرض ..

ببساطة ، لا بد من تشكيل جيش فتح سياسي ، يشكل الجناح الآخر لجيش الفتح العسكري .. فكما نجحت بعض الفصائل وعلى رأسها جبهة النصرة وأحرارا الشام بتشكيل جيش الفتح بقيادة مركزية موحدة أدت إلى إنجازات عسكرية ضخمة ، فإن ذات الفصائل مدعوة اليوم إلى تشكيل جيش الفتح السياسي بحثا عن إنجازات سياسية مماثلة لا تقل أهمية عن الانجازات العسكرية ، تشكل داعما للتحرك العسكري وحاميا له ، وتؤمن غطاء سياسيا وإعلاميا للمجاهدين ، ودعما عسكريا ولوجستيا لعملياتهم ، وتقطع الطريق على نظام الأسد لطرح نفسه كجهة وحيدة قادرة على التفاوض والتفاهم مع تلك القوى التي فرضت نفسها على المعادلة السورية .. يمكن تحقيق هذا الهدف عبر اتفاق قادة تلك الفصائل على اختيار شخصيات مثقفة واعية مقربة من تلك الفصائل ولها حضور إعلامي وعلاقات دولية ( أساتذة جامعة – إعلاميين – أكاديميين – كُتاب – سياسيين – مفكرين – علماء دين متنورين …. )  يوكل إليها تشكيل جسم سياسي بنظام داخلي واضح وقواعد تنظم علاقتها مع الفصائل وتضع  الضوابط اللازمة لضمان استقرار العلاقة وتناغمها بين الجناحين السياسي والعسكري ، ولا بأس من العمل على ” صناعة بطل ”  بأساليب معروفة ، تتوفر فيه كاريزما القائد والقدرة على الخطابة وجذب الجمهور لكي يشكل رأس الهرم السياسي  ..

إن قيمة أي عمل عسكري تكمن في قدرته على شق الطريق أمام العمل السياسي والذي ينطوي على جملة من الأهداف الاجتماعية والاقتصادية والإعلامية والثقافية تسعى جميعا لتحقيق الاستقرار والأمن والرفاهية والعيش الكريم للجمهور الذي يكافح من أجله المجاهدون .. وبدون هدف سياسي يتحول العمل العسكري إلى استنزاف بطيء للقائمين عليه  .. ولأنه يصعب على المجاهدين الجمع بين العمل العسكري والسياسي في الوقت ذاته ، ولأن شخصية المجاهد الميداني تختلف كثيرا عن شخصية السياسي كان لا بد من مجموعة تتصدى للعمل السياسي وتتحمل أعباءه خدمة لذات المشروع وتحقيقا لذات الأهداف التي يسعى الجناح العسكري لتحقيقها ..