on
صبحي حديدي: (النصرة) في إدلب.. عَوْد على بدء بغيض
صبحي حديدي: القدس العربي
أجرت مدينة سراقب جولة جديدة من سلسلة انتخابات اتصفت بها، على نحو مميز، منذ تحررها من قبضة النظام، في آذار (مارس) 2012؛ وتحت تأثير ضغط شعبي، إيجابي تماماً، تمثّل في وسم أطلقه نشطاء المدينة، بعنوان «الانتخابات مطلب شعبي»، على مستويات المجلس المحلي ومجلسَيْ الشورى والأعيان. إحدى هذه الجولات الحديثة كانت انتخاب رئاسة «مجلس الأعيان» في المدينة، بمشاركة 130 من أصل 200 عضو أصيل في المجلس؛ وأمّا المنجز الأحدث لهذه الرئاسة الجديدة، ومجلسها، فقد كان تشكيل اللجنة التحضيرية التي ستشرف على انتخابات مجلس سراقب المحلي، بعد أن تشاور «الأعيان» مع التجمعات المهنية والفعاليات المدنية.
وبالفعل، أجرت هذه اللجنة، قبل أيام قليلة، انتخابات رئاسة المجلس المحلي، وكانت نسبة المشاركة 55٪، بينها 25٪ للنساء؛ وشهدت تنافساً جلياً، وبالتالي نتائج متقاربة، بين مثنى عبد الكريم المحمد (الذي حصل على 1265 صوتاً)، ومنافسه إبراهيم باريش (1174 صوتاً). والفائز من مواليد المدينة (41 سنة)، يحمل الإجازة في الحقوق، وسبق له أن شغل رئاسة المجلس المحلي، كما كان عضواً في نقابة «محامي إدلب الأحرار»، وكان من مؤسسي «مجلس الأعيان» في المدينة، وأحد المشاركين في وضع نظامه الداخلي. وتجدر الإشارة إلى أنّ اللجنة التحضيرية كانت قد اشترطت في المرشح أن يكون من أبناء سراقب، يتجاوز الخامسة والعشرين، «ممن لديه سيرة حسنة وتاريخ ثوري»، و«ألا يكون مداناً بجرم من محكمة»، و«ألا يرتبط بأي شكل من الأشكال مع النظام السوري».
منذا الذي سوف يستشيط غيظاً من نشاط كهذا، وطني وشعبي ومدني وديمقراطي؟ أطراف، أو كلها، تبغض التوصيفات الأربعة الأخيرة، لأسباب قد تتباين في حيثية أو أخرى، لكنها على الأرجح سوف تلتقي عند مظنّة كبرى مشتركة، هي معاداة المفاهيم ذاتها خلف تلك التوصيفات: الوطن، والشعب، والاجتماع المدني، والديمقراطية. وأية جهة، في محافظة إدلب عموماً، ومدينة سراقب تحديداً، سوف تستأثر بالحصة الأعلى في العداء والبغضاء، سوى «جبهة النصرة»، سابقاً ودائماً، وحاملة الاسم الجديد الزائف: «هيئة تحرير الشام»! لا «وطن» عندها، سوى ما تختاره من «ساح الجهاد»، الذي تحلّ فيه يوماً، لكي تغادره بعد يوم؛ ولا «شعب» يعنيها، خارج تعريف غائم وعائم عن «أمّة الإسلام»، مرتبط بالغيب وليس بالبشر؛ ولا «اجتماع» عندها يمكن أن يتجاوز ما يُجمع عليه «أمير الجماعة» أو ولاته، وما يقسرون العباد على الإجماع فيه؛ ولا ديمقراطية، بالطبع، لأنها رجس يتوجب اجتنابه لصالح ما يأمر به الولي الشرعي وما ينهى عنه!
فإذا كانت «النصرة» لم تحتمل، ولم تتحمل، الخلافات «الشرعية» مع أخوتها في الجهاد والسلاح والعقيدة، «أحرار الشام»، فانخرطت معهم في صولات حرب وجولات تطهير؛ فكيف لها أن تقبل، أو تتقبل، نشاطاً انتخابياً يمكن أن يمنح الصوت الشعبي حرية أعلى في إدارة الأرض وخدمة الشعب، وهي ـ أي «النصرة»، وقائدها أبو محمد الجولاني شخصياً ـ تأنس في ذاتها الحكم بتفويض من شرعية إلهية (افتراضية) أعلى؟ وهل إنزال علم الانتفاضة، ثمّ الدوس عليه (بأقدام ليست سورية أيضاً، بل يسير عليها جهاديون عدميون شذاذ آفاق، لا وطن لهم ولا وطنية)؛ أقلّ من يد بيضاء/ سوداء قاتمة في الحقيقة، تُقدّم إلى نظام بشار الأسد؟ وهل اغتيال الناشط الإعلامي مصعب العزو، خلال لجوء «النصرة» إلى إطلاق النار على تظاهرة مدنية في سراقب؛ أقلّ من هبة ميدانية، سياسية وإعلامية، تُهدى مجاناً إلى أجهزة النظام؟
وقبل سنتين ونيف، حين سقطت إدلب في قبضة «النصرة»، كانت الآمال حسيرة النظر قد هللت للحدث لأنه «تحرير» للمحافظة من قبضة النظام؛ غافلة عن حقيقة أخرى نظيرة، كانت تُنذر بوضع أهالي إدلب، ومجتمعها بأسره، في أسر جديد ليس أقلّ همجية مما كانت عليه الحال خلال عقود «الحركة التصحيحية». ولم يطل الوقت حتى كشرت «النصرة» عن أنياب ليست أدنى شراسة، عبر سلسلة إجراءات «شرعية» واشتراطات «أمنية»، استبدادية وقمعية وتعسفية؛ لم يكن أوضحها إغراق ساحات المدينة بصور زعيم تنظيم «القاعدة»، أيمن الظواهري، وإزالة أعلام الانتفاضة، ومحو الشعارات الوطنية والمدنية والديمقراطية. كذلك لم يطل الوقت حتى ابتدأت «النصرة» في تطهير المحافظة من أيّ خصم عسكري محتمل، وكان هؤلاء الخصوم ينحدرون من صفوف الجهاديين أصلاً، إذْ لم يكن قد تبقى من «الجيش السوري الحرّ» إلا أسطورة التسمية!
من جانب آخر، كان سقوط إدلب تحت هيمنة «النصرة» قد أسقط سلسلة من المعادلات الرديفة، المحلية والإقليمية والدولية، بما آل إلى حصيلة لصالح «النصرة»، للمفارقة الصارخة. ومنذ كانون الأول (ديسمبر) 2012، حين لجأت الولايات المتحدة إلى الإجراء الكلاسيكي، والكاريكاتوري، المتمثل في وضع «النصرة» على اللائحة الأمريكية للإرهاب؛ ارتفعت شعبية الجبهة، الأمر الذي عنى أنها سوف تستشرس أكثر في الاستقواء ضدّ خصومها، وضدّ أبناء المحافظة إجمالاً، وسوف تكشف المزيد من المكوّنات الظلامية في خطابها وسلوكها. وكان تخبّط واشنطن في مسألة تسليح الفصائل العسكرية ــ أسوة بتخبط الآخرين في الواقع، كلٌّ حسب الملعب الذي اختاره للعب بالفصائل الجهادية ــ بمثابة عامل تقوية إضافي للجبهة؛ فلم يكن لديها ما تخسره جرّاء حجب الأسلحة، ويتوفر لها الكثير الذي تربحه في حال تدفقها. ولقد رجحت كفة «النصرة»، كما حدث يومذاك في حربها ضد «حزم» و»الجبهة الثورية السورية» و»أحرار الشام»، في جبل الزاوية ومحيط إدلب وشمال حلب، ثمّ في المعركة الفاصلة للسيطرة على معسكرَي وادي الضيف والحامدية تحديداً.
وكم بدا بائساً، وقصير نظر، ذلك التهليل الذي صدر عن برهان غليون ــ في صفته كرئيس أوّل «مجلس وطني» للمعارضة، على الأقلّ! ـ للترحيب ببيان الجولاني، حول إدارة مدينة إدلب؛ معتبراً أنها تقضي على «الشكوك التي يثيرها الكثيرون في الداخل والخارج حول العلاقة بين القوى الجهادية والقوى الوطنية، والتي تجعل المستقبل يبدو غامضاً بالنسبة للسوريين إزاء أي تقدم على الارض وفي مجال التحرير». ذلك لأنّ مستقبل إدلب، في قبضة «النصرة»، لم يكن غامضاً البتة، بل توجب أن يبصره أمثال غليون في حقائقه الكابوسية؛ هذه التي أخذت تتكشف تدريجياً، يوماً بعد آخر، وليست التطورات الأخيرة في سراقب إلا بعض تفاصيلها. وحين عبّر كاتب هذه السطور عن توجسه من سيطرة «النصرة» على إدلب، تنافخ نفر آخر من قصيري النظر، نافخي الأبواق الشعبوية وقارعي الطبول الطائفية، لتأثيم أيّ تخوّف من المستقبل؛ وليس غريباً أنّ هؤلاء يلتزمون، اليوم، صمت القبور إزاء جرائم «النصرة» في سراقب.
ومن أسف، وأسى أيضاً، أن يقف المرء على مقدار التناقض بين مجتمع مدني يُجري انتخابات بلدية وطنية وشعبية وديمقراطية، تناهضه جماعة جهادية ظلامية التفكير والسلوك، في غمرة ابتهاج النظام وحلفائه، وتضخّم معضلات هذه الانتفاضة المتيتمة: بين السلاح، بوصفه عقيدة وعبادة؛ وهزال هيئات المعارضة، الخارجية «الرسمية»، التابعة والمرتبطة بأنظمة وأجهزة ومصادر تمويل؛ وتعليق الآمال على أعداء النظام اليوم/ أصدقائه حتى الأمس القريب؛ وانقلاب البلد إلى ساحة لتصارع الأجندات، الإقليمية والدولية، الجيو ـ سياسية والمذهبية؛ والقوى العسكرية والميليشيات الغازية للبلد، المقاتلة إلى جانب النظام أو ضده أو فيما بينها، وضدّ الشعب السوري دائماً؛ والموقف الإسرائيلي، غير الراغب في سقوط النظام…
عَوْد على بدء بغيض، إذن، في خطّ «النصرة»؛ وانطلاقة نحو ممكنات أفضل، من أجلها اندلعت الانتفاضة أصلاً، في خطّ الشعب. والأيام، بينهما، حبلى…