on
ساطع نور الدين: النزوح من الغوغاء
ساطع نور الدين: المدن
يستجيب شريط الفيديو الذي يصور تعنيفاً وإذلالاً متعمداً لنازح سوري من قبل شبان لبنانيين، لحملة تعبئة رسمية وشعبية واسعة النطاق ضد النازحين السوريين، وينحط بها الى مستوى دنيء وخطير، ويمثل إنتزاعاً للسلطة والقانون من قبل الشارع الذي لم يثبت يوماً أنه على سوية عقلية وأخلاقية تحفظ الاجتماع اللبناني، وتحميه من البركان السوري.
الشبان الذين إعتدوا على النازح السوري، شعروا أن بإمكانهم أخذ زمام المبادرة من الدولة في الدفاع عما يعتبرونه تهديداً للجمهورية، وأمنها وجيشها وإقتصادها، ورئيسها الذي بات إسمه يدرج في الحملة على النزوح، كمحفز ضمني على تصعيد المواجهة الرسمية والشعبية مع النازحين السوريين إنتصاراً للهوية الوطنية المستعادة، وغطاء رسمي يضمن العفو السريع عن كل من ينشد الحلول محل المؤسسات..بدل ان يكون العكس تماماً.
في الحملة ذاتها مفارقات ومغالطات كثيرة، لم تكشفها السلطة ولم يكتشفها الشارع طبعا: هي تتصاعد الآن في الوقت الذي تنخفض فيه معدلات النزوح السوري، أو بالاحرى ترتفع أعداد السوريين العائدين الى مدنهم وقراهم، إما طوعاً ومن دون أي دوافع خاصة سوى إحساسهم بعودة الأمان فعلا الى مناطقهم وأحيائهم، او تجنباً لأعباء نزوح طال كثيرا وإغاثة تأخرت أكثر.. او بناء على تسويات وتفاهمات مع النظام، عبر وكيله اللبناني الشرعي ، حزب الله.
تقديرات العائدين من لبنان الى سوريا في الشهرين الماضيين، وتحديداً منذ ما قبل عيد الفطر الماضي، لافتة. هي لا تصل الى مستوى العودة من تركيا الى سوريا التي فاقت النصف مليون نازح ، لكنها تقترب منها . ليس ثمة أرقام نهائية بل ملاحظات ومشاهدات لمنظمات إغاثة دولية وأقليمية، لا تسقط من الحساب أن عبور الحدود الرسمية والمعابر غير الشرعية، في الاتجاهين لا يمكن ضبطه وإحصاؤه بدقة، لا سيما وأنه واحد من أكبر حركات النزوح والهجرة المسجلة بين بلدين مجاورين ليس بينهما علامات حدودية صارمة، وبين شعبين ليس بينهما فوارق إجتماعية خاصة.
الوضع الامني في سوريا يستقر في ما يزيد عن نسبة 40 بالمئة من مساحة سوريا حسب تقديرات المعارضة السورية نفسها. أما المساحات الخاضعة للمعارضين فانها تكاد تكون جحيماً لا يطاق، سواء من حيث المعارك والاشتباكات بين التنظيمات المتنافسة على الخوات والضرائب، او على البرامج السياسية_الدينية الخرافية التي لا تمت الى الواقع الشعبي السوري بصلة. وهنا لا بد من الاقرار بان عودة النازحين السوريين تتم الى مناطق النظام او الى المناطق المحايدة، أو النائية عن جبهات القتال.
لكن تلك العودة لا تبدو في معظمها أنها بالتفاهم او حتى بالتفاعل مع النظام، الذي يخطىء اللبنانيون خطأ فادحاً عندما يظنون أنه يتوق الى إستعادة النازحين، ويناديهم ليلا ونهارا من أجل الالتحاق بوطنهم وأرضهم ومسكنهم. التهجير كان ولا يزال مخططاً مدروساً ومحكماً، هدف الى إفراغ سوريا من بعض سكانها وتعديل الخلل الديموغرافي (والطائفي) بينهم، وإلقاء عبء الهجرة السورية على كل من “تآمر” على النظام، من لبنانيين وأتراك وأردنيين وأوروبيين وأميركيين ..
وهي مغالطة كبرى يقع فيها اللبنانيون الذين ينادون بالحوار الرسمي المباشر مع النظام في دمشق من أجل إعادة النازحين ، وهم في ذلك يتميزون عن بقية دول اللجوء السوري التي تدرك ان مثل هذا الحوار غير مجد وغير ذي شأن ، بل يمكن ان يجرد تلك الدول من الحدود الدنيا من معاييرها الانسانية والاخلاقية والسياسية طبعا، ويخضعها لإبتزاز النظام الذي يمكن ان يتهمها بأنها هي التي أغوت المهاجرين لترك مدنهم وقراهم وبيوتهم ، ويطلب منها تعويضات مالية عن كل مواطن سوري يسمح له بالعودة الى وطنه.
لعل الشارع اللبناني الذي يبادر اليوم بترجمة الحملة الرسمية على النازحين السوريين يدرك هذه الوقائع، ويشعر أن الوقت قد حان لمساعدة السلطة على الخروج من تلك المغالطات التي يروج لها عن تزايد عبء النزوح ومخاطره، او عن شغف النظام بإستعادة النازحين. وهو بذلك لا يضع البلد على حافة حرب أهلية ، على ما يشاع حالياً، لان النزوح لم يُثر (حتى الان على الاقل) العصبيات الطائفية او المذهبية اللبنانية الكامنة، لكنه يمكن أن يؤدي الى إضطراب أمني لبناني لا تحمد عقباه، والى توتر لبناني سوري لا تعرف ضوابطه.