on
مرح البقاعي: سوريا.. من التهجير إلى نفوذ الغرباء
مرح البقاعي: كلنا شركاء
من سخريات القدر الأسود الذي حطّ على سوريا وأهلها أن نسمع راعي الانتداب العسكري ومدبّره، الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ينأى بنفسه عن قتامة المشهد الدموي في البلد الجريح مبدياً تخوّفهُ من احتمال تقسيم سوريا، هادفاً من إطلاق تلك التصريحات إلى تشجيع صيغة الحوار بدلاً من الاقتتال في المناطق “المنخفضة التصعيد”، تلك التي أقرّها مؤتمر آستانا الثالث، وضمنتها ثلاث دول إقليمية هي تركيا وإيران وروسيا، الدول التي ستشكّل أضلاع مثلث برمودا حيث تكاد تختفي حقائق كبرى عن الثورة السورية الماجدة التي انقلبت إلى حرب الجميع، إلا السوريين، على الأرض السورية.
وقد جاء في كلمته التي ألقاها مؤخّراً أمام المنتدى الاقتصادي في مدينة بطرسبرج وتناقلته وسائل الإعلام بكثافة ما مفاده أن “هناك تخوّف محدّد من احتمال تحوّل تلك المناطق المسماة منخفضة التصعيد إلى نماذج لتقسيم البلاد في المستقبل”. فما طبيعة تلك المناطق، وما هي حدود جغرافيتها السياسية، وهل فعلاً من الممكن أن تشكّل منطلقاً لحوار مباشر بين المعارض المسلحة والنظام كما تأمل الدول الضامنة وفي مقدمتها روسيا، علماً أن هكذا اتفاق لم يكن ليبرم لولا انتشار مناخ من التوافق بين موسكو وأنقرة لم يسبق له مثيل طيلة سنوات الأزمة السورية؟
تندرج المناطق الأربعة المنخفضة التصعيد تحت عنوانين رئيسين لناحية الوضع العسكري فيها: الأول يضم المناطق الواقعة على الحدود الشمالية التركية في محافظة إدلب الشمالية الغربية، وعلى الحدود الجنوبية الأردنية في درعا والقنيطرة، وتلك المناطق تتمتع المعارضة بنفوذ معقول وبدعم أصدقائها العسكري والسياسي. أما العنوان المناطقي الثاني فيضم مناطق في ريف حمص الشمالي، والغوطة الشرقية في ضواحي دمشق وهي مناطق محاصرة من النظام السوري وحلفائه، ويسري عليها قهراً وفي أوقات متفاوتة ما يدعوه النظام “المصالحات” وهي اتفاقات تتم على عجل تحت قهر الجوع والموت البطيء للسكان، حيث يخيّر أهل البلدات بين الخضوع للنظام أو التهجير القسري لمن يرفض التنازل عن موقفه وسلاحه، ودائماً باتجاه محافظة إدلب وريفها. ومن اللافت أنه أثناء انعقاد مؤتمر آستانا الثاني تمّ تهجير أهل حيي برزة والقابون في شمال دمشق من قوى المعارضة بصفقة “المصالحة” السيئة السمعة، وكأن مؤتمر آستانا هو الراعي غير المعلن لعمليات التغيير الديمغرافي التي ستشرّع لتوزيع مناطق النفوذ بين الدول الثلاث الكبرى إيران والولايات المتحدة وروسيا.
يبدو اتفاق آستانا في هذا السياق مجرد عملية احتواء للمعارضة العسكرية المتواجدة على الأرض، وهي المعارضة الموجعة فعلاً للنظام السوري، والذي يهتمّ بشار الأسد بمفاوضتها مباشرة كما علمت من المبعوث الأممي للملف السوري، السيد ستيفان ديمستورا، خلال لقاء رسمي بعيداً عن الإعلام خلال أعمال مؤتمر سوريا الذي رعاه الاتحاد الأوروبي في بروكسل حين سألته عن مقاربته لمؤتمر آستانا ولماذا الدفع القوي باتجاهه، فقال: “أخبرني بشار الأسد حين التقيته مؤخراً أنه يريد التفاوض مع الجهات المقاتلة ذات النفوذ على الأرض لا مع المعارضات السياسية التي لا تملك أي سلطة حقيقية في سوريا”! والجدير بالذكر أن اتفاق آستانا قد ساهم فعلاً لا قولاً بإضفاء الشرعية الدولية على الاستراتيجية العسكرية الإيرانية الروسية في تلك المناطق حيث ستعمل طهران وموسكو على الدفع باتجاه وقف العمليات القتالية لميلشيا الأولى، والطلعات الجوية للثانية، بهدف تحويل تلك المناطق إلى نموذج أولي لما كان يسمّى “مناطق آمنة” ذلك المصطلح المنتهي الصلاحية مع دخول آستانا وتوافقاتها على الخط. هذا ناهيك عن أن اتفاق آستانا يمنح تركيا والأردن دوراً ذا أطر واضحة في إدارة المعارضة المسلحة وتحديد مهماتها في الشمال والجنوب، ويطلق اليد للولايات المتحدة في المناطق الحدودية مع الأردن لتمكين نفوذها حيث أولوياتها الإقليمية التقليدية.
ومن عناصر المفاجأة التي لم تبخل فيها الأحداث السورية المتسارعة والمتلاطمة في أغلب الأحيان هو إلغاء كازاخستان لمؤتمر آستانا الرابع الذي كان مقرراً انعقاده في يومي 13 و 14 حزيران/يونيو الجاري، دون تحديد أسباب إلغائه أو موعد لاحق لانعقاده، علماً أن لقاء لجنيف لم يعقد أيضاً هذا الشهر حيث من المفترض أن يعقب اجتماع آستانا بعدة أيام كما جرت العادة.
من نافلة القول أن الدخول العسكري المباشر للولايات المتحدة بإدارة ترامب في المعادلة السورية أدى إلى ترسيخ مناخ تقاسم النفوذ الذي هو أعتى وأشد مرارة من التقسيم الجغرافي بحرْفيّته، وما نجاح انخفاض التصعيد في المناطق الأربعة المعلنة من الطرفين، النظام وحلفائه من جهة، والمعارضة من جهة أخرى، إلا إشارة جليّة لتحوّل مزاج واشنطن وموسكو باتجاه تهيئة تلك المناطق لنموذج للحوار بين من تبقى من أهلها حياً لم تدفنه الأنقاض أو يحمله “باص أخضر” إلى أدلب وبين أطراف النظام السوري، وذلك في استعاضة واضحة عن مؤتمر جنيف وقراراته التي يبدو أن الزمان أكل عليها وشرب بعدما باع النظام واشترى وقايض بالوقت والذمم من أجل التخلّص من هاجس انتقال سياسي أقرته قوانين مجلس الأمن في الحالة السورية وفي مقدمتها القرار رقم 2254 ببنوده كافة.
هكذا تبدو الخارطة السورية اليوم مبرقعة بمناطق نفوذها تماماً كما البدلة العسكرية التي ألبسوها لثورة بدأت سلمية بالحناجر والورد، وانتهت بقَطْع الحناجر وتهجير الورد. ونكاد في حمأة تلك الحروب المتعددة الجنسيات على الأرض السورية نفقد البصيرة والحيلة معاً، فالمعركة لم تعد معركتنا، والسلاح الذي حمله الثوار دفاعاً عن النفس نفذت ذخيرته وطاقة حامليه في آن، وسوريا تسير مع المنطقة بأسرها إلى مصير آخر لم يرسمه أهلها البتة بل طامعون زرق العيون، ورجال ملتحون، وأصحاب عمائم سود من حمّالي الحطب ولهب الضغينة الأزلي.
Tags: سلايد