(بدّي يرجع بابا)… أهالي المفقودين السوريين قسراً في انتظارهم

كلنا شركاء: لبنى سالم- العربي الجديد

في سورية، ثمّة معاناة يصعب تحمّلها. هناك، تنتظر عائلات أن يعود المختفون قسراً إليها. تنتظر أي أخبار عنهم. هل هم أحياء؟ هل هم بخير؟ هؤلاء ليسوا قادرين على الحداد ولا حتّى العيش من دون أحبائهم. لكنهم يعيشون على أمل أن يعودوا.

معاناة السوريين كبيرة في بلادهم، بين نزوح وتهجير وفقدان أحبّة واعتقال وغيرها، ولا ننسى “الاختفاء القسري”. عائلات كثيرة فقدت أحد أفرادها في ظروف غامضة. وفي العادة، لا يعود من ذهب. ويقول مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان، فضل عبد الغني، إن “الحكومة السورية تتحمّل مسؤولية القسم الأكبر من المختفين قسرياً في سورية”، موضحاً أنّ النظام يهدف، من خلال عدم الاعتراف بوجود معتقلين في سجونه، إلى “تحويلهم إلى مختفين قسرياً. لذلك، يتكتّم على وجودهم تماماً، حتّى لا يتحمّل أيّة مسؤولية قانونية عن الأعداد الكبيرة من المعتقلين الموجودين في سجونه ومعتقلاته. أيضاً، يسعى إلى تحطيم نفسية معارضيه. بالتالي، يعاني الناس من جرّاء غياب ذويهم وأحبائهم”.

وسط هذه الظروف، تسعى عائلات إلى البحث عن أي معلومات عن المختفين، ما يعرّضهم لابتزاز المقربين من النظام. يقول عبد الغني: “من خلال تواصلنا مع أهالي المختفين قسراً، عرفنا أن عدداً كبيراً منهم يتعرض لابتزاز مالي بمبالغ كبيرة جداً، في مقابل الحصول على معلومات قد تكون مغلوطة أو ناقصة. ويعلم النظام بوجود هذه الشبكة من العصابات المنتفعة، وهي إحدى أدوات تسلّطه على المجتمع وقهره وتعذيبه”. في المقابل، يحاول آخرون التعايش مع هذا الواقع، والتأقلم مع غياب من يحبون، من دون أن يفقدوا الأمل برؤيتهم مجدداً.

رسائل إلى أحمد

نورا، شابة ثلاثينية تعيش في دمشق، وهي ناشطة اجتماعية ومقبلة على الحياة. إلّا أنّ ابتسامتها تخفي مأساة كبيرة تعاني منها وطفلتها منذ نحو خمس سنوات، يوم اختفى زوجها أحمد. حين تستذكر ذلك اليوم تتغير ملامحها، فتمسك بيد ابنتها التي تجلس قربها، كأنها تخاف أن تهرب منها. تقول: “كان يوم أربعاء. خرج في الصباح الباكر للسفر إلى حمص، ولم أعلم حتى إن كان قد غادر دمشق. لم يرد أن يوقظني يومها. فقط قبلني وابنته، وذهب ولم يعد. لا نعرف شيئاً عنه”.

طوال هذه السنوات، تشغل نورا نفسها بالعمل وتسعى جاهدة إلى تعويض نقص الأب بالنسبة لابنتها، والتخلّص من ضغوط المجتمع. تقول: “أحياناً، أسمع عبارات العزاء كأن أحمد ميت. والأصعب هي ضغوط عائلتي، التي تطلب مني الانفصال عنه في المحكمة بحكم أنه غائب. يعتقد كثيرون أنني لن أتخلص من مشكلتي إلا في حال صرت تحت كنف رجل جديد”. تضيف: “أنا وأحمد نلتقي في المساء، تلتقي أرواحنا. أكتب له كلّ يوم تقريباً. صارت هناك رسائل كثيرة لم يقرأ أياً منها بعد، لكنه سيرغب في قراءتها حتماً حين يعود”. تضيف وقد ظهرت ابتسامة على وجهها: “أحمد مولع بالقراءة. قبل أن نتزوج، كان يسألني دائماً أن أكتب له، فللحب طعم آخر على الورق. واكتشفت أيضاً أن للألم طعماً آخر على الورق، أكثر رحمة. أكتب حتى لا تقتلني أفكاري”.

في الرسائل، تكتب نورا عن حياتها الحالية وابنتها، “اليوم أكملت رؤى عامها الرابع. بدا لي وأنا أتأملها تأكل الكيكة، أنها تشبهك أكثر مني، حتى في حركاتها. نظراتها حاذقة، وحين تغضب تبدو كأنها أنت. أقمت حفلة صغيرة، وقد جاء شقيقك الصغير فضل. لم يعد صغيراً، بل صار في الصف السابع. كانت أمك أيضاً. هل قلت لك إنها تغيرت كثيراً في غيابك يا أحمد؟ يتهيأ لي أن ملامحها صارت أكثر جدية. تخيل أن أمك التي لم تفتعل أي مشكلة صارت طباعها عصبية والجميع يخاف غضبها. لكن لا تقلق. الجيد أنها باتت تحبني أكثر من قبل. أنا وهي ذرفنا دموعنا بالسر ونحن نستذكرك في المطبخ حتى لا تلحظها رؤى. إليك الأهم يا عزيزي. هل تعلم ما الذي تمنته صغيرتك في عيد ميلادها الرابع؟ قالت: (بدي يرجع بابا). أشعر أحياناً أن هذه الصغيرة التي لا تعرفك تنتهز أية فرصة لتقول كلمة بابا. أحمد، هل ستحقق لها هذه الأمنية؟”.

اختارت له عروساً

كعادتها منذ 30 عاماً، تستيقظ أم قاسم مع طلوع الفجر، لتنهي أعمالها المنزلية باكراً. لكن كل ما يهمّها اليوم هو تنظيف وترتيب غرفة قاسم، التي لم يعد يدخلها غيرها. هكذا تعيش منذ اختفائه قبل أربع سنوات في مدينة حلب. تقول شقيقته ليندا: “منذ غيابه، تنظف أمي غرفته وترتبها كأنه غادرها للتو. تعيد طي ملابسه وترتيبها، وتشم رائحة عطره. تبقى فيها ساعات عدة في الصباح. حاولنا ثنيها عن هذا مرات عدة، إذ نعلم أن تذكّره يومياً يزيد من ألمها. تصرف كل ما نخزنه من مياه في تنظيف غرفة لا يدخل إليها أحد، لكنّنا نكتم غضبنا خوفاً من أن نزيد همّها”.

عائلة قاسم ليست على يقين من أنه حي. إلّا أن أمه تضع يدها على صدرها وتقول: “عايش، والله عايش. إبني وبعرف، ليش ما عم تصدقوا؟ (لماذا لا تصدقون؟)”. لكن رغم كل محاولات العائلة، لم تسمع خبراً عنه طوال أربع سنوات. توضح ليندا: “نعيش وهماً. هل يمكن أن يكون حياً طوال هذه المدة ولا نعرف عنه شيئاً؟ أمي أكثر من تأثر بغيابه. أحياناً تنهار وتصيبها كآبة ولا ترغب بالتحدث. وفي أحيان أخرى، تتصرف كأنّه سيعود غداً. خلال إحدى زياراتنا إلى الجيران، أشارت لي بطرف عينها إلى فتاة، ثم سألتني إذا ما كانت مناسبة لقاسم؟”.

تضيف ليندا: “حين يحلّ شهر رمضان، لا تكف عن الحديث عن قاسم. تعهدت بختم القرآن مرتين، رغم أن عينيها لم تعودا تساعدانها على القراءة. لا تطهو شيخ المحشي، أكلة قاسم المفضلة، بانتظار أن يعود”. لعلّ أصعب ما واجهته العائلة كان تلقيها استدعاء لقاسم للالتحاق بالخدمة الاحتياطية في جيش النظام. تقول ليندا: “كأنهم أرسلوا لنا ورقة نعوة. طوال الوقت، كنا نرجح بأنه معتقل في سجون النظام. لكن إن كان كذلك، كيف يرسلون لنا ورقة استدعاء باسمه؟ أليس معتقلاً إذاً؟”. دوامة من الأسئلة أغرقت العائلة في تخبط جديد لم تستطع الخروج منه حتى اليوم.

خسارة غامضة

يقول عبد الحليم البستاني، وهو طبيب متخصّص في الأمراض النفسية، إنّ ما يعانيه أهالي المختفين قسرياً يندرج تحت ما يسمى “الخسارة الغامضة”، وهي خسارة غير مفهومة ولا مكتملة. لذلك، يعاني أصحابها من مشقة البحث الدائم عن إجابات لما أصابهم. يضيف: “خلافاً لحالات الفقدان الأخرى، فإنّ الحزن بالنسبة لهؤلاء مؤجل أو مجمّد، بسبب عدم القدرة على القبول أو الاعتراف بوجود مشكلة. في الحداد، يصل الناس إلى المرحلة الأخيرة من الحزن حين يشعرون بأنهم تصالحوا مع الحقيقة، التي لا يحظى بها أهالي المفقودين. كذلك، يعاني هؤلاء الأشخاص من أعراض ومشاكل نفسية أشد صعوبة، وتؤثّر على صحتهم، نظراً لطول المدة. يعاني البعض من القلق والتيقظ الدائم، الأمر الذي يتجلى في صعوبات في النوم وهلوسة وعصبية، ما ينعكس على نمط حياتهم وعملهم وحياتهم الاجتماعية”.

ويوضح البستاني أن “أكثر ما نلاحظه لدى أهالي المفقودين هو أن حياتهم تتغيّر كثيراً، وهناك من يعاني من الاكتئاب، خصوصاً أنّ كثيرين يسخّرون حياتهم للبحث عن معلومات غير متاحة، فيما يتخبّط آخرون في محاولة للوصول إلى إجابات أو يطرحون الأسئلة. مثلاً، ماذا أخبر أطفالي؟ هل ما زلت متزوجة؟ هل عليّ أن أحزن؟ ويمكن أن يظهر أهالي المفقودين عنفاً مفرطاً، أو يتعاطون المخدرات، وقد ينتحرون”.

يتابع البستاني: “لا يمكن للعلاج النفسي أن يفعل الكثير في هذه الحالة. الدور الأكبر هو للبيئة والمحيطين بأهالي المفقودين. فالدعم النفسي الذي يمكن أن يتلقاه ذوو المفقودين هو أن يحاطوا بالأصدقاء والأسرة والحب، ويجب عزلهم عن الإشاعات. كذلك، لا يجب قول عبارات العزاء التي تفترض أنه مات، أو أنه حتى سيعود قريباً. فأي معلومة أو كلمة قد تدخلهم في حلقة مفرغة جديدة من التساؤلات والتخبط. يكفي فقط أن نستمع لذوي المفقودين وهم يعبرون عن مكنوناتهم ونساعدهم في حلّ المشاكل الاجتماعية التي يواجهونها”. ويلفت إلى أنّ الكتابة والتحدّث إلى الغير، والانخراط في الأعمال التطوعية، قد تساعد أهالي المفقودين.