محمد أمير ناشر النعم: تأويل النبي علمانياً

محمد أمير ناشر النعم: حكاية ما انحطت

عندما نتحدث اليوم عن تأويل النبي علمانياً، فنحن لا نتحدث عن نهاية مآلات الإسلام، في عصره الراهن، بل نتحدث عنه في بداياته، في لحظة تأسيسه وانبثاقه. فالتأويل ليس بحثاً عن معنى جديد يتم استيراده وتلزيقه والتجمّل به، ولكنه بحث عن المعنى الأوّل وتتبع لسيرورته ومصائره. فمعرفة ما هو (أوّل)، وتلمسه غضاً طرياً سبيله التأويل.

أما العلمانية، فقد نما مفهومها في مسار تاريخي طويل ومعقد، كشجرة ملتفة بعيدة الذوائب، حتى غدا متعدّد الأبعاد، ومتقلباً في دلالاته الضمنية المتناقضة، ومثقلاً بدلالات متنوعة، غير أنّنا سوف نهتدي، في النهاية، لدى تتبع هذه الفروع والأغصان إلى الساق: العلمنة السياسية، بغض النظر عن تدرجاتها، وإلى الجذر: العلمنة الفكرية، بغض النظر عن مدى جذريتها. وبناء عليه سيُطرح السؤال: هل تأويل النبي علمانياً هو باعتبار “العلمنة السياسية”، أم باعتبار “العلمنة الفكرية”؟

والجواب: باعتبارهما معاً.

فقد تبدت إرهاصات العلمنة الفكرية عند النبي الكريم من خلال موقفه من مصادر الحقيقة التي لم يقصرها على الوحي، ولكنه أتبعها بالسير والنظر في تلافيف التجربة الشخصية الجوانية في النفس، وما يختلج فيها من خبرات في عوالم الحدس والشعور، وجعل الإنسان نفسه هو الشاهد وهو الحكم، بل “الإنسان على نفسه بصيرة”، وبــ “السير والنظر” في رحاب التجارب الجماعية السابقة التي اصطلحنا على تسميتها بـالتاريخ، وبالسير والنظر في آفاق الطبيعة: أرضها وسمائها وأفلاكها، وسنرى فيما بعد كيف انطلق أتباع هذا النبي ليحوّلوا بهذه الروحية وإرهاصات العلمانية الفكرية والتنجيم إلى علم الفلك.

لقد كان موقف النبي محمد، عليه الصلاة السلام، شبيهاً بموقف علماء الغرب الذين تعرّضوا لمحاكمات الكنيسة الجائرة. فنحن نعلم أنه لم يتبلور مفهوم العلمانية الفكرية في أوروبا إلا من خلال طبيعة الإجابات على الأسئلة التالية: ما مصدر الحقيقة؟ كيف نبلغها؟ وكيف نتحقّق منها؟ وقد ولدت الإجابات نزاعاً مريراً ما بين الكنيسة التي حصرت مصدرها في الكتاب المقدس/ الوحي، وما بين رجال العلم الذين رأوا أن لكتاب “الطبيعة” حجية مماثلة. وبحسب خوسيه كازانوفا، فإنّ هذا النزاع الذي رمزت إليه محاكمة غاليليو “لم يكن بسبب صحة النظرية الكوبرنيكية الجديدة عن الكون، أو بطلانها بقدر ما كان بسبب صحة مزاعم العلم الجديد باكتشافه نهجاً مستقلاً جديداً لبلوغ الحقيقة والتحقّق منها. لم يكن النزاع، بالمعنى الضيق للكلمة، نزاعاً بين مضامين الدين ونموذج علمي معين، بل نزاعاً بين الكنيسة ومطلب النهج الجديد باستقلالية متمايزة، وبالتالي كانت مساعي كل الرواد (جاليليونس وكيلبر ونيوتن) لتتويج كتاب الطبيعة، إلى جانب كتاب الوحي، سبيلاً معرفياً وشرعياً ومنفصلاً، ولكن معادلاً للوصول إلى الله”. (انظر: كازانوفا، خوسيه: “الأديان العامة في العالم الحديث”. ت: قسم اللغات الحية والترجمة في جامعة البلمند. مراجعة الأب بولس وهبة. المنظمة العربية للترجمة. ط: 1، بيروت، 2005، ص 39)، ولقد كان موقف رجال العلم آنذاك شبيهاً جداً بموقف النبي محمد، إن لم يكن متطابقاً معه.

أما إرهاصات العلمانية السياسية فلاحت في حرص النبي على تثبيت مبدأ “الفصل بين السلطات”، وبالعودة للمعنى الأول في شخصية النبي الكريم، هذا المعنى الذي لا يخطئه بصر ولا بصيرة، سنلاحظ تنوّع تصرفات النبي، تبعاً لتعدّد تجليات ذاته، وسنلاحظ أنّ المرحلة المدنية كانت الفرصة المناسبة لإبراز هذه التجليات. ففي مكة لم يُتح لمحمد عليه السلام سوى تجلٍّ واحد هو محمد النبي، لكنه في المدينة أتيح له أن يحقّق ثلاثة تجليات: (محمد النبي، محمد القاضي، محمد القائد)، وأتيح له من خلال الممارسة العملية أن يفصل فيما بينها، وكان هذا الفصل هو لب العلمانية السياسية وأسها وروحها.

ولعلّ هذه النقطة بالذات هي ما ميّزت النبي محمداً عن السيد المسيح عليهما السلام، فالمسيح لم يُتح له أن يمارس ويباشر هذا المبدأ (الفصل بين السلطات)، رغم أنّه دعا إليه، على اعتبار أنّ رسالته كانت تقابل المرحلة المكية فقط، في حين تسنّى للنبي محمد أن يمارس ذلك في المرحلة المدنية، وعلى الرغم من كون معظم العلماء تاريخياً تنبّهوا إلى قضية الفصل بين السلطات، فإنهم لم يذهبوا بها إلى حدودها الطبيعية التي كان من المفترض أن تذهب إليها بأن تغدو مبدأ أساسياً من مبادئ الحكم يتم تأكيده وتأصيله وتفصيله، ليُلزم الحكام وجميع ذوي السلطان، وفق قواعد واضحة مضبوطة ومهيّئة للتنفيذ.

لقد علّم النبي صحابته، أنّه حين يجلس للقضاء فإنّه يفصّل سلطته الدينية عن السلطة القضائية، فيحكم بموجب الأدلة والقرائن والإثباتات، بل وأخبرهم أنه ربما حكم على خلاف الحق، تقيّداً بما تؤدي إليه الأدلة، وخضوعاً واحتراماً لها، في مزيد تأكيد منه على مبدأ الفصل بين السلطات.

 جاء في كتب الصحاح: “إنكم تختصمون إلي، وإنما أنا بشر، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، وأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئاً فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار”، وعلّمهم أنه حين يقود المعركة فإنه يفصل كذلك بين السلطة الدينية والسلطة العسكرية، وأنه يتبع قواعد التدبير والتخطيط والتجارب والحيل. جاء في سيرة ابن هشام في الحديث عن غزوة بدر: “أنّ الحبّاب بن المنذر بن الجموح قال يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل، أمنزلاً أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه، ولا نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة؟ فقال: يا رسول الله، فإن هذا ليس بمنزل، فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم فننزله، ثم نغوّر ما وراءه من القُلب، ثم نبني عليه حوضاً فنملؤه ماءً، ثم نقاتل القوم، فنشرب ولا يشربون، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: لقد أشرت بالرأي. فنهض رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ومن معه من الناس فسار حتى إذا أتى أدنى ماء من القوم نزل عليه”.

أما حديث تأبير النخل المشهور، والوارد في كتب الصحاح أيضاً، فجاء فيه: “إذا كان شيء من أمر دنياكم فشأنكم، وإذا كان شيء من أمر دينكم فإليّ”.

وهكذا نرى كيف علّمهم وبيّن لهم متى يكون مفتياً، ومتى يكون حاكماً، ومتى يكون نبياً، من دون تداخل بين هذه التجليات، ومن دون هيمنة واحدة منها على أخرى، أو استغلال واحدة لأخرى! تثبيتاً وتوضيحاً لمبدأ (الفصل بين السلطات)، ولا سيما السلطة الدينية عن بقية السلطات الأخرى.

ختم النبوة تمهيداً للعلمنة

عندما أرادت المستشرقة الألمانية آن ماري شميل أن تشرح للغرب سرَّ ردة الفعل العارمة التي اجتاحت العالم الإسلامي عقيب نشر رواية آيات شيطانية، وجدت نفسها تؤلف كتاباً  أسمته “وأن محمداً رسول الله”، يحكي قصة محبة المسلمين نبيهم الكريم، وتعظيمهم إياه، عبر تتبع آثار العلماء ودواوين الشعراء ممن ذاب غراماً وعشقاً وهياماً بمحمد صلى الله عليه وسلم، وفتّشت وقمّشت في معظم ما كُتب في لغات الشعوب المسلمة من عربية وفارسية وتركية.. لكن حظي العلامة الشاعر محمد إقبال اللاهوري بفصل خاص دوناً عن بقية الشعراء والعلماء، لفرادة علاقته بالنبي محمد، فقد كانت دواوينه وآثاره تضج بإعلان هذه المحبة العارمة، وبتقديم مسوغاتها، في أكمل وجه، وأجمل صورة.

 وبسبب من هذا التعمّق  والمعايشة في فهم هذه الشخصية الفريدة حقاً فقد كان أول مسلم يكشف عن أبعاد لها لم يتطرق إليها أحد سواه من قبل، وكان أول مسلم يتحدث عن ختم النبوة باعتبارها ممهداً للعلمانية فقد كتب في حدود سنة 1928: “إنّ نبي الإسلام يبدو أنه يقوم بين العالم القديم والعالم الحديث، فهو من العالم القديم باعتبار مصدر رسالته، وهو من العالم الحديث باعتبار الروح التي انطوت [رسالته] عليها، وإنّ النبوة في الإسلام لتبلغ كمالها الأخير في إدراك الحاجة إلى إلغاء النبوة نفسها، وهو أمر ينطوي على إدراكها العميق لاستحالة بقاء الوجود معتمداً إلى الأبد على مقود يقاد منه، وأن الإنسان لكي يحصل كمال معرفته لنفسه ينبغي أن يترك ليعتمد في النهاية على رسائله هو”  (انظر: إقبال، محمد: “تجديد التفكير الديني في الإسلام”. ت: عباس محمود، مصر. دار الهداية.ط: 2، سنة 2000، ص 149).

إنّ هذا النص بروحه النيتشوية الطامحة، وبهذا الفهم المتفرّد، بالقياس إلى زمنه، للشخصية المحمدية، ولمدلولات ختم النبوة، فتح الطريق لفهم جديد للشخصية المحمدية، ولدورها ومكانتها الفريدة ليس على المستوى المحلي، ولكن على المستوى الإنساني العام، ومن هنا رأينا مرسيا إلياد (1907ــ1986) وهو أحد أهم باحثي الأديان ودارسيها في كتابه “أنماط من الأديان المقارنة”، يكرّر ويقرّر مقولة إقبال نفسها، وكأنّه يقتبسها، فهو يرى أنّ النبي محمداً يقف على مفترق طريق التحول من المرحلة الثانية إلى المرحلة الثالثة والأخيرة من مراحل التحول الروحي للجنس البشري، لأنّ تاريخ العقل الإنساني هو عملية علمنة عامة، وهكذا يقف النبي الكريم في الحد الفاصل بين عصر ينتهي هو عصر السيادة المسيحية الثيوقراطي، وبين عصر يبدأ هو العصر العلماني. (انظر: بيجوفيتش، علي عزت: “الإسلام بين الشرق والغرب”. ت: محمد يوسف عدس. ألمانيا. مؤسسة بافاريا. ط: 2، سنة 1997، ص 278).

وسوف نلاحظ أنّ الآباء المسيحيين أنفسهم في العصور الوسطى استشفّوا هذا المعنى، لذلك دأبت الأدبيات المسيحية على تصوير النبي محمداً نبياً للمادية. وكان التسويغ السريع والمباشر لهذه الدعوى يستند ظاهرياً إلى أنّ الدين الإسلامي يبالغ في تصوير نعيم الجنة تصويراً حسياً، ولكنه في الحقيقة كان موجهاً لمجمل التقليد الإسلامي الذي كان أكثر تصالحاً مع العالم الدنيوي، وأكثر تقبّلاً له، واستئناساً به. هذا التقليد القائم على شخصية نبوية تعشق العطر، وتحب النساء، وجُعلت قرة عينها في الصلاة، وسنلاحظ أيضاً أن بدايات العلمنة الفكرية الأولى لدى المسيحية كانت بسبب من المفكرين المسلمين، وبدافع منهم، ولا سيما الفيلسوف الأندلسي ابن رشد، حيث أطلق الخلاف حول تدريسه في القرن الثالث عشر الميلادي، وما عُرف بقمع الرشدية، الشرارة الأولى لحركة العلمنة الفكرية، قبل قرون من العلمنة السياسية.

وبالعودة إلى محمد إقبال، مرة أخرى، هل نجد أثراً أو موقفاً له يدلل فيه على تطبيق عملي يتنزل فيه فهمه وتحليله الذي ذكرناه وعرضناه؟

والجواب: إنّنا سنجد ذلك في أجلى صورة، وأقواها وأفصحها، فهذا الرجل الذي يفيض بالحمية الدينية وبالاعتزاز بالإسلام، وبالدعوة إليه باعتباره أهم سبل رشاد البشرية وتوازنها، كان من المسلمين القلائل في العالم الإسلامي ممن وقف موقفاً متفهِّماً إلغاء الخلافة الإسلامية على يد مصطفى كمال أتاتورك، على خلاف معظم الشعراء والعلماء في معظم الأقطار والبلاد الإسلامية الذين ذهلوا يومها ذهولاً مطبقاً، وانهاروا انهيار أسد عجوز قد أثخته الجراح، أما إقبال فوقف وحيداً في سربه يشيد بأوّل تجربة علمانية في العالم الإسلامي، وبالفهم وبالمعالجة التي تمّ من خلالها الانتقال إلى النظام الجمهوري، وفي ذلك يقول: “لننظر الآن كيف مارس المجلس الوطني الكبير حق الاجتهاد فيما يتعلق بنظام الخلافة. إن تنصيب خليفة أو إمام أمر محتوم لا غنى عنه طبقاً لرأي أهل السنة، وأول سؤال يرد في موضوع الخلافة هو: هل ينبغي أن تسند الخلافة إلى شخص مفرد؟ وقد أجاب الاجتهاد التركي عن هذا بأن روح الإسلام تجيز إسناد الخلافة أو الإمامة إلى جماعة من الناس، وإلى مجلس منتخب، وعلى قدر ما أعلم، لم يُبدِ فقهاء الدين من المسلمين في مصر والهند حتى الآن رأيهم في هذا الموضوع (يبدو هنا واضحاً أنه لم يكن قد اطلع على كتاب علي عبد الرازق (الإسلام وأصول الحكم) الصادر في مصر في 1925)، ثم يقول: “أما أنا فأعتقد أن الرأي التركي رأي جدّ سليم، ولا يكاد يوجد ما يدعو إلى الجدل فيه، ونظام الحكم الجمهوري لا يتفق مع روح الإسلام فحسب، بل لقد أصبح كذلك ضرورياً من الضرورات، نظراً للقوى الجديدة التي انطلقت من عقالها في العالم الإسلامي”. (المصدر السابق: ص 186).

في الختام

لقد كتب منذ عدّة سنوات رئيس وزراء المغرب الحالي الدكتور سعد الدين العثماني، وهو من أبرز قياديي الحركة الإسلامية السياسية في المغرب كتاباً عنوانه: “تصرفات الرسول بالإمامة”، وقد تساءل يومها أحد الباحثين قائلاً: “هل هذا الكتاب تأصيل للعلمانية؟” والجواب الطبيعي: بلى. بغض النظر عن وجود هذا القصد لدى المؤلف أو عن عدمه، لأن تنوع تصرفات النبي ما بين كونه نبياً أو قاضياً أو حاكماً، لا تفضي إلا إلى هذه النتيجة. غير أنّ التجربة التاريخية المديدة للحكام والساسة، والتنظير الفكري الهائل لمن دار في فلكهم وحول موائدهم، لم تنتج لنا سوى فهم واحد لذلك النبي، فهم جعله مصدراً لدمج السلطات بدلاً من فصلها، وصيّره ملهماً للعلاقة الغوغائية الانتهازية فيما بينها بدلاً من تحديد مساراتها وسبلها، فالحاكم سابقاً ولاحقاً لم يكن له من همٍّ سوى أن يجمع في قبضته السلطات كلها بلا تمييز ولا تحديد، حتى الحاكم الذي يدّعي العلمانية اليوم يُبقي جميع السلطات متداخلة مشوّشة مشوّهة مع بعضها بعضاً، فلا نكاد نجد تمييزاً ما بين سلطة تنفيذية أو قضائية أو تشريعية أو سياسية أو دينية، حيث تغدو جميعها دمىً مجمّعة تجميعاً مسرحياً في صندوق العرائس، يلهينا بها مرة، ويرعبنا بها مرة أخرى.

لقد استطاعت المسيحية منذ قيام الثورة الفرنسية، من خلال كلمة واحدة لا تتجاوز نصف سطر، أن تسوغ العلمانية، وأن تأوِّل المسيحية تأويلاً علمانياً: (اتركوا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله)، وتمكنت أن تحسم الجدل حولها حسماً نهائياً وباتاً، في حين أننا ما زلنا حتى هذه اللحظة نخبط خبط عشواء في فهم العلمانية، وفي تقدير أهمية الفصل بين السلطات، وفي تلمس الإمكانات الثرة المتاحة لنا لتأويل الإسلام ونبيه تأويلاً علمانياً، بلا تكلف ولا تعسف، ولكننا ما زلنا معاندين شامتين مكابرين.