on
Archived: معقل زهور عدي: جذور المواطنة في التراث العربي الاسلامي
معقل زهور عدي: كلنا شركاء
بالنسبة للغرب تمتد جذور المواطنة في أعماق التاريخ لتصل للحضارة اليونانية , فقد عرفت اليونان مصطلح المواطن والذي كان يدل على شخص حر يتمتع بجملة من الامتيازات المعترف بها والمصانة بالقوانين مثل تملك الأراضي الزراعية والعقارات كما له الحق في المشاركة بصنع القرار السياسي من خلال الديمقراطية اليونانية الممثلة بالاجتماعات العامة التي تتخذ فيها القرارات المصيرية والهامة , وفي المقابل عليه واجبات مثل دفع الضرائب وتمويل الجيش والحملات العسكرية وبالطبع المشاركة في القتال حين يدعو الواجب .
لكن تلك الديمقراطية لم تكن كاملة , فالمواطن اليوناني لم يكن يمثل سوى جزء من المجتمع , أما العبيد والنساء والطبقة الفقيرة فقد كانوا جميعا خارج تلك الديمقراطية . فهم ليسوا ( ببساطة ) مواطنين .
وفي الحقيقة لم تكن الديمقراطية اليونانية سوى ومضة في التاريخ , لحظة نادرة , لكن الحضارة الأوربية الحديثة اعادت احيائها خاصة مع الثورة الفرنسية عام 1789 , ويعود الفضل للثورة الفرنسية في تعميم مفاهيم أساسية مرتبطة بمفهوم المواطنة مثل المساواة والحرية والديمقراطية .
لم يكن ممكنا بعث مفهوم المواطنة لولا دخول البرجوازية للتاريخ, ليس بوصفها طبقة اجتماعية ذات دور اقتصادي هام , ولكن بوصفها طبقة اجتماعية صاعدة لم تعد قادرة على ترك السلطة السياسية بعيدة عن متناولها , ومن خلال صعودها قامت البورجوازية بحشد الطبقات العمالية والفلاحين خلفها رافعة راية الحرية والمساواة والديمقراطية .
صحيح أن التجار لعبوا دائما في التاريخ القديم دورا سياسيا من وراء ستار , لكن البورجوازية الأوربية المكونة من أصحاب رؤوس الأموال الذين غيروا بنية المجتمع عشية الانقلاب الصناعي كانت شيئا مختلفا بالكلية عن كل ما سبقها في التاريخ .
فلأول مرة تصبح الصناعة مركز ثقل الاقتصاد , وتحل المكننة مكان العمل اليدوي الحرفي المحدود الانتاج , وتبتعد الزراعة لتحل وراء الصناعة في الاقتصاد والمجتمع , ويشهد ذلك العصر هجرة كبرى للفلاحين نحو المدن ليصبحوا عمالا في المصانع دون عودة للزراعة .
هذه التغييرات الثورية في بنية المجتمع والتي يعود الفضل فيها للبورجوازية هي الأساس الذي نهضت عليه أفكار الثورة الفرنسية حين حملت للعالم راية المساواة والحرية والمواطنة والديمقراطية .
بالطبع ليس لدينا في التاريخ الحديث للشعوب العربية مايشبه ذلك التحول , لكن مع خروج الدولة الأوربية البورجوازية نحو البلدان المتخلفة في عصر الاستعمار دخلت المنطقة العربية وغيرها في العالم مرحلة الاندماج القسري في الاقتصاد العالمي كما في الثقافة والسياسة .
ماهو لدينا اليوم هو عالم تم دمج اقتصادياته المنعزلة سابقا في اقتصاد عالمي يتمركز حول البلدان الأكثر تطورا , وعلى صعيد الفكر السياسي فقد تم تعميم كثير من المفاهيم السياسية ولم تعد مقتصرة على بلدان الحضارة الأوربية .
ما لايفهمه الفكر العربي التقليدي الماضوي أن كثيرا من المفاهيم السياسية لم تعد ملكا للحضارة الأوربية وأن الحضارة الأوربية قد استحالت اليوم حضارة عالمية وأن محاولة الانعزال عن تلك الحضارة العالمية محكوم عليها بالفشل لكونها تعاكس نواميس التاريخ .
ما قصدت قوله أننا لم نعد بحاجة للبرهنة على أصالة مفاهيم الحكم والسياسة في تراثنا كتبرير للأخذ بها في مجتمعاتنا العربية والاسلامية , ” فالحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها فهو أحق بها ” , مع ذلك ولأجل تسويغ تلك العملية التي تواجه حربا ضروسا من الأفكار الأكثر تشددا في تيار الاسلام السياسي فمن المهم البحث عن جذور ” المواطنة ” باعتبارها نقطة الانطلاق لبناء الدولة في تراثنا العربي الاسلامي .
المواطنة في مجتمع المدينة ” بزوغ الدولة الاسلامية “:
خلافا للفكر المتشدد السائد اليوم فقد شكلت المعاهدة بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين يهود المدينة عقدا سياسيا مؤسسا للدولة فهي ترسي مفهوم العيش المشترك السلمي الرضائي لطوائف دينية مختلفة ضمن بنية سياسية واحدة بحيث يتحدد بوضوح حقوق وواجبات كل طرف . وبتعبير آخر يصبح لكل فرد داخل تلك الدولة هوية مواطنة اضافة لهويته الدينية دون انتقاص منها .
تنص بنود المعاهدة على الآتي : ( د. راغب السرجاني )
1- إن يهود بني عوف أُمَّة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم مواليهم وأنفسهم.
2- وإن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم.
3- وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة.
4- وإن بينهم النُّصح والنصيحة، والبرَّ دون الإثم.
5- وإنه لا يأثم امرؤُ بحليفه.
6- وإن النصر للمظلوم.
7- وإن اليهود يُنفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين.
8- وإن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة.
9- وإنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده فإن مردَّه إلى الله –عز وجل، وإلى محمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم.
10- وإنه لا تُجَارُ قريشٌ ولا مَنْ نَصَرَهَا.
11- وإن بينهم النصر على من دهم يثرب.. على كل أناس حصتهم من جانبهم الذي قِبَلَهُمْ.
12- وإنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثم
ومنها يتضح أن لليهود حقوقا تشبه الى حد كبير حقوق المواطنة : فلهم حرية العقيدة , والاستقلال المالي , بل والتحالف مع غير المسلمين تحالفا لايؤدي لضرر المسلمين , كما لهم العدالة ( البند السادس ) وتجمعهم مع المسلمين دولة واحدة لها حرمة أرضها وحدودها , كما أن مواطني هذه الدولة ملزمون بالدفاع عنها سواء كانوا مسلمين أم يهودا .
المواطنة والمساواة :
يرتبط مفهوم المواطنة بمفهوم المساواة , وفي المواطنة اليونانية لم تكن تلك المساواة كاملة ففضلا عن استثناء العبيد والطبقات الفقيرة والنساء منها فقد كان هناك حصر للمناصب العليا في الدولة ضمن طبقات اجتماعية محددة ضمن المواطنين أنفسهم , أجل لقد كان المواطنون متساوين في حقوق الانتخاب وحرية الرأي لكنهم لم يكونوا متساوين في أحقيتهم لتولي المناصب العليا في الدولة .
فحتى في اصلاحات “سولون ” الذي يعد ابا الديمقراطية اليونانية فقد تم تقسيم المواطنين إلى أربع طبقات وفقًا للدخل.وفي حين يسمح للمواطنين من كل الطبقات بأن يُصبحوا أعضاء في الجمعية التشريعية وفي المحاكم المدنية.لكن يحق فقط للطبقات الثلاث العُليا تولي المناصب العامة العُليا ويحق فقط لأعلى طبقة بتولي منصب الأرخون.
وقد احتاج الأمر لأن تنتظر أوربة مئات السنين حتى تعدل الثورة الفرنسية من مفهوم المساواة والمواطنة الاغريقيين لتصبح المساواة مساواة تامة بلا استثناء وتصبح المواطنة حقا للجميع تأسيسا على مفهوم المساواة الجديد .
أما في الاسلام فقبل حوالي الف ومئتي عام من الثورة الفرنسية قرر الاسلام المساواة التامة بين جميع البشر على اختلاف عروقهم وأجناسهم , ومن تلك النظرة انبثقت صرخة سيدنا عمر التي هزت التاريخ “متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم امهاتهم أحرارا ” , فالمساواة والحرية في الاسلام حق فطري لكل البشر دون أي تقسيمات طبقية أو عرقية .
وفي الحقيقة فان هذه المفاهيم الأولية ذات أهمية قصوى في بناء المواطنة والدولة .
المواطنة ومفهوم العقد الاجتماعي في الاسلام :
يرتبط مفهوم المواطنة بمفهوم العقد الاجتماعي , فدولة المواطنة هي دولة العقد الاجتماعي , وهذا العقد شأنه شأن كل العقود قائم على رضى الطرفين , وهذا هو جوهر مفهوم الاسلام ذاته لدولة المواطنة.
فاذا كان لايجوز لامام جماعة أن يصلي في الناس وهم له كارهون فكيف يجوز لحاكم دولة أن يحكم الناس وهم له كارهون؟
ليس الاسلام بعيدا عن مفهوم المواطنة , وجذورها موجودة في مفهوم الاسلام للمساواة التامة بين جميع البشر , وفي الحرية الفطرية التي وهبها الله لهم , وفي دولة المواطنة التي أسسها الرسول الكريم في المدينة , وفي مفهوم العقد الاجتماعي لدولة المواطنة .
Tags: محرر