on
Archived: سمير العيطة: معنى الاستقلال لدى السوريين
سمير العيطة: البيان
لا ينظر السوريّون إلى استقلالهم كما اللبنانيوّن. يحتفي السوريّون بالجلاء الذي أُنجز في أبريل 1946، أمّا اللبنانيّون فيحتفون باستقلالٍ حصل في نوفمبر 1943، ما دفع إلى مغالطة شائعة أنّ لبنان استقلّ قبل سوريا.
في الحقيقة، لدى سوريا أكثر من عيدٍ للاستقلال. أوّلها في 8 مارس 1920 حين أعلن المؤتمر السوريّ العام «استقلال سوريا بحدودها الطبيعيّة استقلالاً تامّاً مع الاحتفاظ بالحكم الذاتي للبنان». وبالطبع كان معنى هذا استقلالاً عن الامبراطوريّة العثمانيّة، التي ورثتها تركيا اسميّاً بعد معاهدة لوزان والتي أعلنت استقلالها رسميّاً والنظام الجمهوريّ في 29 أكتوبر 1923. إلاّ أنّ هذا الاستقلال السوريّ الأوّل لم يُكتب له أن يكون ناجزاً إذ سرعان ما خضعت البلاد للانتداب الفرنسي الذي أقرّته عصبة الأمم في 25 أبريل 1920، ولم تُلغه بل قيّدته ووضعته تحت الوصاية.
في العام 1936 تمّ توقيع المعاهدة السوريّة-الفرنسيّة التي نصّت على إنهاء الانتداب. وصادق البرلمان السوريّ عليها حينها دون البرلمان الفرنسيّ الذي علّق أمرها لما بعد الحرب العالميّة الثانية. هكذا إلى أن نشرت طائرات الحلفاء فوق الأرضي السوريّة واللبنانيّة، أثناء تقدّمها في 1941 ضدّ قوّات حكومة فيشي المتحالفة مع ألمانيا النازية، مناشير الإعلان الشهير للجنرال كاترو. وممّا جاء فيه: «أنا أُلغي اليوم الانتداب وأعلن أنّكم أحرار مستقلّون. لقد أضحيتم شعوباً سيّدة ومستقلّة، وستضمن اتفاقيّة تنظّم علاقتنا المشتركة وضعيّة سيادتكم واستقلالكم».
بعدها، زار الجنرال شارل ديغول الأراضي السوريّة في 1941، وخطب في جامعة دمشق في 29 يوليو متراجعاً عن إعلان كاترو: «نحن نقدّر أنّه قد حان الوقت كي تُنهي فرنسا بالاتفاق معكم نظام الانتداب وأن تضع معكم الشروط التي تؤمّن سيادتكم واستقلالكم الكاملين والناجزين». ثمّ أضاف «وأن نثبِّت أسس تحالفٍ بيننا، يكون بالنسبة للطرفين الأكثر صدقاً ورغبة». ثمّ كرّر هذه المبادئ في 5 أغسطس في بيروت. هكذا أضحى التحالف مع فرنسا شرطاً للاستقلال.
جرت بعد ذلك انتخابات في سوريا ولبنان. فأوصلت الانتخابات اللبنانيّة في أغسطس/سبتمبر 1943 بشارة الخوري إلى سدّة الرئاسة. وفي 8 نوفمبر أقرّ البرلمان اللبناني دستور لبنان الحاليّ الذي ألغى الانتداب. فاعتقلت القوّات الفرنسيّة الرئيس الخوري ورئيس الوزراء رياض الصلح و6 وزراء آخرين. فعمّ التظاهر وجاء الجنرال كاترو، وأطلق سراح المعتقلين، وأقرّ ضمنيّاً باستقلال لبنان ضدّ رأي الجنرال ديغول. هكذا أضحى يوم 22 نوفمبر 1943، يوم عودة الرئيس والوزراء الوطنيين اللبنانيين للحريّة هو يوم الاستقلال. لكنّ جلاء القوّات الفرنسيّة من لبنان لم يحصل سوى في أغسطس 1946، وبشكلٍ كامل سوى في ديسمبر من نفس العام.
في 28 مارس 1945، دُعيت سوريا ولبنان إلى مؤتمر سان فرانسيسكو كي يضحيا بلدين مؤسّسين للأمم المتحدة. وشكّلت هذه الدعوة بحدّ ذاتها اعترافاً دولياً باستقلالهما. وعمّت سوريا تظاهرات حاشدة مطالبة بانسحاب جميع القّوات الأجنبيّة دون شروط. إلاّ أنّه تمّ قصف دمشق والبرلمان السوريّ و«الحريقة» في 29 مايو 1945. فوجّهت القوّات البريطانيّة إنذاراً للقوّات الفرنسيّة بوقف القصف في 1 يونيو.
رغم ذلك، خطب الجنرال ديغول أمام البرلمان الفرنسي في 19 يونيو 1945 أنّه: «سنُعلن ونحترِم استقلال دول المشرق إذا ما تمّ توقيع معاهدة معهم تقرّ الحقوق والمصالح الخاصّة بفرنسا».
ولاحظ أنّ «سوريا ولبنان اللذين يتطلّعان بحقّ لاستقلالهما لم يمارسا هكذا استقلالٍ منذ أن كان العالم عالماً… فكيف لدمشقيين وحلبيين وأكراد ودروز وبدو وأشوريين-كلدانيين وعلويين وسنّة وشيعة وموارنة وأرمن وكاثوليكيين غربيين وشرقيين وأرثوذكس ويهود وإيزيديين أن يبرزوا بين ليلة وضحاها، في خضمّ الأزمة العظمى التي تجتاح العالم، وأن يكونوا ضمن دولٍ منظّمة؟». رغم ذلك، بقيت صورة ديغول إيجابيّة في الأذهان، ربّما لدوره في استقلال الجزائر ثمّ أثناء حرب 1967، لكن لا أحد يتذكّر الجنرال كاترو.
أوّل ردٍّ سوريّ ولبنانيّ على هذا أتى في الأوّل من أغسطس 1945، حيث تمّ تأسيس الجيشين السوريّ واللبنانيّ ليحلاّ مكان «القوّات الخاصّة» الطائفيّة التي أنشأها الفرنسيّون. أمّ الردّ الثاني فكان أن اشتكت سوريا ولبنان في 4 فبراير 1946 في أوّل جلساتٍ لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة أنّ «تواجد القوّات الفرنسيّة يشكّل تعدّياً على سيادة دولتين مستقلّتين عضوين في الأمم المتحدة». فجرت عندها عدّة محاولات لإصدار قرارات من مجلس الأمن. رفضت الولايات المتحدة مشروعاً أوليّاً، فعادت فرنسا وبريطانيا بمشروعٍ ثانٍ توافقتا عليه، عُرِضَ للتصويت.
استخدم ضدّه الاتحاد السوفييتي حقّ النقض المُعطى للأعضاء الدائمين كأوّل سابقة في تاريخ مجلس الأمن. فانتهى الأمر كي تقرّ فرنسا وبريطانيا في رسالة إلى المجلس توافقهما مع حكومتي سوريا ولبنان بالجلاء دون قيدٍ أو شرط عن سوريا قبل نهاية أبريل وعن لبنان قبل نهاية ديسمبر. ليتّم إنجاز رحيل القوّات الفرنسيّة عن سوريا في 17 أبريل 1946، وهو عيد الجلاء والاستقلال الحقيقيّ لسوريا.
النظرة إلى الاستقلال والجلاء تختلف أيضاً مع الأردن ومصر. إذ يحتفي الأردن باستقلاله في 25 مايو، ذكرى التسليم المشترك لمعاهدة الاستقلال مع بريطانيا عام 1946. إلاّ أنّ الانتداب البريطاني على الأردن لم يتمّ إنهاؤه رسميّاً إلاّ في 17 يونيو 1946، ولم يصبح الأردن عضواً كاملاً في الأمم المتحدة سوى في 14 ديسمبر 1955، ولم ترحل القوّات البريطانيّة إلاّ في 1956. فيما تحتفي مصر بعيد «استقلالها» في ذكرى «ثورة» 23 يوليو 1952.
إلاّ أنّ استقلالاً اسميّاً ونهاية نظام الحماية البريطانيّ (الذي يشابه الانتداب) مُنِح بعد ثورة 1919 الشعبيّة بإعلانٍ من طرف بريطانيا في 22 فبراير 1922؛ ما مكّن مصر أن تكون عضواً مؤسّساً في الأمم المتحدة. ثمّ جاءت معاهدة 1936 لتنصّ على الجلاء إلاّ عن قناة السويس. ومن بعدها معاهدة 1954 التي كلّلت في 18 يونيو 1956 برفع العلم المصريّ على قناة السويس قبيل العدوان الثلاثيّ.
فما الرمز الذي ستحتفي به سوريا يوم ولادتها الثانية من الحرب والشرذمة؟
* رئيس تحرير النشرة العربية من «لوموند ديبلوماتيك» سابقاً ورئيس منتدى الاقتصاديين العرب
Tags: محرر