جورج عيسى: (مصير العالم الحرّ يُحدَّد في سوريا) … كيف سيتعامل (العبقريّ) مع بشار الأسد؟

في بضعة أشهر، استطاع الرئيس الفرنسيّ الجديد إيمانويل ماكرون أن يحصل على لقب “العبقريّ في الفنون الديبلوماسيّة”، على الأقلّ بالنسبة للصحافيّة ماري ديجيفسكي على ما كتبته في صحيفة “الغارديان” البريطانيّة. 

  جورج عيسى: النهار

ديجيفسكي ليست الوحيدة التي أشادت بمهارة ماكرون السياسيّة بل يوافقها الرأي عدد من الصحافيّين الغربيّين وفي مقدّمهم كتّاب فرنسيّون وبريطانيّون. آخر إنجازات الرئيس الجديد الذي تمثّل باستقبال الرئيس الأميركي دونالد ترامب وسابقاً نظيره الروسي فلاديمير بوتين دفع المراقبين إلى إبداء إعجابهم بحركيّة ماكرون. 

لكن بالرغم من ذلك، يبرز “تناقض” بحسب تعبير البعض، في طريقة تعامل الإليزيه مع إحدى أولويّات السياسة الخارجيّة الفرنسيّة في الشرق الأوسط والمتمثّلة بإيجاد حلّ للأزمة السوريّة. فالرئيس الفرنسيّ بدّل مواقفه كثيراً تجاه محور مهمّ من الأزمة وهو مصير الرئيس السوريّ بشّار الأسد. خلال زيارته بيروت في كانون الثاني الماضي، أعلن ماكرون معارضته أن يكون تنحّي الأسد “شرطاً مسبقاً لأيّ شيء”، داعياً إلى سياسة “مستقلّة ومتوازنة تمكّن من إجراء محادثات مع جميع الأطراف” في النزاع السوري. لكنّه رفض في الوقت نفسه “التفاهم” مع الأسد. أمّا الجواب على سؤال كيف يمكن إجراء “محادثات” مع الأسد بدون “التفاهم” معه، فكان ينتظر الأيّام اللاحقة.

ماذا غيّر الهجوم الكيميائيّ؟

واستمرّ هذا الموقف الملتبس خلال الحملة الانتخابيّة، فانتقد ماكرون اشتراط رحيل الأسد كمدخل للتسوية السياسيّة لكنّه رفض التحالف معه لأنّه زعيم “فاشل”، مركّزاً على أولويّة محاربة داعش. بعد الهجوم الكيميائيّ على خان شيخون قال ماكرون في مقابلة مع قناة “فرانس-2” التلفزيونيّة إنّ هذا “الأمر الخطير جداً” يستدعي “التدخّل العسكري” في حال ثبوت تورّط الأسد. وشدّد حينها على أنّ الأولويّة المطلقة بالنسبة إليه هي القضاء على داعش و “بناء (العمليّة السياسيّة ل) خروج الأسد”.

تناقض في أسبوعين؟

وفي 21 حزيران الماضي، تراجع ماكرون عن موقفه أمام مجموعة من الصحافيين الأوروبيين: “نظرتي الجديدة للقضيّة أنّني لم أقل إنّ رحيل بشّار الأسد شرط مسبق لكلّ شيء لأنّني لم أرَ بديلاً شرعيّاً”. وأضاف أنّ الأسد هو عدوّ للشعب السوري لا لفرنسا.

عقب هذا التصريح، وقّع 100 مثقف وباحث وأكاديميّ رسالة إلى ماكرون نشرتها صحيفة “ليبيراسيون” الفرنسيّة في الثالث من هذا الشهر، مطالبين إيّاه بالعودة عن هذه الرؤية. فهي “خطأ تحليلي عظيم”، يضع فرنسا في موقف “المتواطئ” مع الجريمة بحسب بعض ما جاء في البيان.

التخبّط الفرنسيّ عاد إلى الواجهة بعد ثلاثة أيّام على تلك الرسالة، إذ شدّدت الناطقة باسم وزارة الخارجيّة الفرنسيّة أنييس روماتي-إسبانيي على أنّه لا يمكن التوصّل إلى حلّ بوجود الأسد. وقالت لقناة “العربيّة”: نعتمد واقعيّاً على خطّين: الأوّل أنّنا لن نجعل من رحيل الأسد عن السلطة شرطاً مسبقاً للمفاوضات، والثاني أنّه لا يمكن بوجوده التوصّل إلى حلّ للنزاع في سوريا”.

خارطة طريق

وفي الحلقة الأخيرة من هذا “الالتباس” الذي يكاد لا ينتهي حتى ضمن التصريح الواحد أحياناً، أكّد الرئيس الفرنسي خلال مؤتمر صحافي مشترك مع نظيره الأميركي يوم الخميس الماضي أنّ باريس و واشنطن تعملان على وضع حلول سياسيّة في سوريا لما بعد الحرب. وتحدّث عن بناء خارطة طريق لتلك المرحلة مع ممثلين عن الرئيس السوري والمعارضة، ضمن مبادرة ديبلوماسيّة “ملموسة” طلب فيها الرئيسان من ديبلوماسييهم ومستشاريهم الإعداد لتلك الخارطة. ومع تأكيده مجدّداً على عدم اشتراط “رحيل أو تنحية” الأسد قبل المحادثات، أشار إلى أنّ المبادرة ستُرفع إلى الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن بعد الانتهاء من صياغتها. وشدّد على أنّ ضرب الإرهاب يتصدّر سلّم أولويّات فرنسا.

بين ماكرون وهولاند

بداية، يجب لفت النظر إلى أنّه قبل تسلّمه الرئاسة، لم تكن فرنسا تملك ثقلاً وازناً في هذا الملفّ. بل كانت الأنظار الأساسيّة تتّجه صوب موسكو فواشنطن ثمّ بعض الدول الإقليميّة بشكل ثانويّ. لكنّ الصورة تغيّرت مع مجيء ماكرون الذي تبيّن من خلال خطابه أنّه يولي انخراط بلاده في إيجاد تسوية سياسيّة سوريّة أهميّة بارزة. لكنّ “غموض” مواقف الرئيس الفرنسيّ إزاء مصير الأسد ما زال بحاجة إلى تفسير.

لا تضارب

البروفسّور الزائر في معهد الدراسات السياسيّة في باريس والمدرسة الوطنيّة للإدارة نيكولا تنزر ينفي أيّ تضارب: “إلى درجة معيّنة، إنّ (مواقف ماكرون) ليست متضاربة، على الأرجح”. وفي حديثه إلى “النهار”، يبدي اعتقاداً ب “أنّ ماكرون يرى الأسد غير مقبول وهو على دراية ممتازة بجرائم الحرب والجرائم ضدّ الإنسانيّة المرتكبة من نظام الأسد وحلفائه … خلال حملته دافع باستمرار عن حقوق الإنسان وما زال يفعل ذلك (على مستوى) مسائل اللاجئين الذين يدعوهم ‘مناضلي الحرّيّة'”.

محاولة كشف نواياه

لا يستغرب تنزر الذي خصّص قسماً كبيراً من كتبه ومقالاته للشؤون الروسيّة والأوروبيّة والشرق أوسطيّة، كيف يجد معارضو الأسد بيانات ماكرون غير مفهومة. ويؤكّد أنّ “ما فعله الأسد في سوريا هو أسوأ مذبحة في القرن الواحد والعشرين”. لكن مع ذلك هنالك تفسير لخطابات ماكرون. الرئيس الفرنسي أعلن في قمّة العشرين أنّ الأسد ليس حليفاً لفرنسا وأنّ هنالك اختلافاً كبيراً بين باريس و موسكو حول هذه المسألة. لكنّ ما قاله في قمّة مجموعة السبع الصناعية في صقلية، يوضح أنّه من غير المقبول على إيران وروسيا أن يضعا الأجندة. وبحسب تنزر، يعني هذا الأمر “بشكل ضمنيّ أنّه يريد من فرنسا والاتحاد الأوروبي على الأرجح، أن يكونا جزءاً من الحلّ في سوريا وأنّ محادثات أستانا غير مقبولة ولا تودي إلى أيّ مكان”.

هكذا يحلّل ماكرون

في هذا السياق من التحليل ينقل تنزر قرّاءه إلى الفكرة التالية. “تحليله (ماكرون) هو أنّه لجعل فرنسا تنخرط في هذا المسار، سيكون من غير المناسب القول إنّ رحيل الأسد هو شرط مسبق لمحادثات جديدة. قد يكون ذلك موقفاً ديبلوماسيّاً في الأساس. إنّه لا يعني أنّ الأسد يمكن أن يبقى في الفترة الانتقاليّة. هو يفهم على الأرجح أنّ الأسد لا يمكن أن يؤمّن أي استقرار في سوريا وفي الشرق الأوسط”. ويتطرّق تنزر إلى ضرورة عدم نسيان أنّه خلال زيارة بوتين إلى فرساي حدّد ماكرون خطّين أحمرين: استخدام الأسلحة الكيميائيّة وضرب الممرّات الإنسانيّة. وأكّد الباحث خلال إجابته على أسئلة “النهار”، ضرورة احترام هذين الخطّين بعكس ما حدث مع الرئيس السابق باراك أوباما.

ماذا لو أيّد ماكرون بقاء الأسد؟

يشير تنزر إلى أنّ أيّ تعزيز لموقع الأسد في سوريا سيكون “كارثة كاملة لا للشعب السوري وحسب إنّما للعالم أيضاً، وبالطبع للدول المجاورة أيضاً مثل لبنان”. ويقول إنّه لا يمكن التخلّص من الإرهاب طالما أنّ الأسد باقٍ في السلطة. “نحن نعلم أيضاً أنّ هنالك تواطؤاً بين الأسد وداعش وأنّ روسيا والأسد بالكاد يحاربان داعش”.

“إن بقي الأسد في السلطة، فهذا قد يعني أيضاً أنّ روسيا و إيران قد ربحا وأنّ جرائم الحرب قد تبقى بلا عقاب”. ويجب أن تكون الأولويّة لمواجهة روسيا وإيران في سوريا. “هذا هو التحدّي الكبير للعالم الحرّ. إذا لم يكن الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة قادرَين على مواجهته، فسيكون له تداعيات كارثيّة بعيدة النطاق”. وينهي تنزر كلامه محذّراً: “مصير العالم الحرّ سيُحدّد في سوريا”.