السوريون…قرن من الوجود الخلاّق في فرنسا ومستعمراتها

كلنا شركاء: محمد المزيودي- العربي الجديد

ليس ثم إحصاءات دقيقة عن عدد السوريين في فرنسا، وإن كانت بعض الإحصاءات تشير إلى أنهم يتجاوزون بقليل 70 ألف شخص، في حين تذهب إحصاءات أخرى إلى أن عدد الفرنسيين من أصول سورية حوالى 350 ألف شخص، دون إحصاء الطلبة. ويعود وصول أوائل السوريين للاستقرار في فرنسا أثناء الحرب الكونية الأولى، ثم تبعهم آخرون بعد انتهاء الانتداب الفرنسي على سورية، سنة 1946، ثم شهدت فرنسا قدوم موجات سورية في ثمانينيات القرن الماضي، أغلبهم طلبة وأطر.

العلاقات بين فرنسا وسورية عريقة ضاربة في التاريخ، ولعل من بينها حروباً صليبية وتجارة ورحّالة ومستشرقين ..

وصل إذن سوريون في موجة هجرة أولى إلى فرنسا في بداية القرن الماضي، من الفئات الميسورة التي كانت أوضاعها الاقتصادية جيدة، لغرض تحصيل مختلف المعارف والعلوم. في حين أن بعضهم الآخر اضطر للهجرة بسبب بطش الاحتلال العثماني لسورية، فحظي برعاية كبيرة من قبل الكنيسة الكاثوليكية الفرنسية، وتمتع بتسهيلات للإقامة.

ولم يقتصر وصول السوريين إلى فرنسا، بل تعدَّاه إلى العديد من مستعمراتها، بعضها يطلق عليها، الآن، فرنسا وراء البحار، وخاصة جزر المارتينيك الفرنسية، في الفترة ما بين 1920 و1946، أي خلال فترة الانتداب الفرنسي، كموجة أولى. ثم جاءت موجة ثانية بعد الحرب الكونية الثانية.

وامتهن السوريون، في بداياتهم، التجارة، بيع الملابس والقماش وتسويق الأحذية والملابس الجاهزة، قبل أن يفتحوا متاجرهم. ويعتبر حضورهم قوياً، الآن، لدرجة أنه يندُرُ أن تجد بلدة لا يوجد فيها تاجر من أصول سورية.

وأشهر مكان يتجمع فيه السوريون ويدل عليهم هو شارع فرانسوا-أراغو، في مدينة فور- دو فرانس، عاصمة المارتينيك. لدرجة أنه يطلق عليه شارع السوريين، وخلّدتها رواية تحمل نفس الاسم (شارع السوريين) للروائي رافائيل كونفيان، كما تحيل إلى الشارع ذاته طفولة الروائي الفرنسي المارتينيكي الكبير باتريك شاموازو، (الحاصل على جائزة الغونكور الأدبية سنة 1992)، في عمله “Antan d’Enfance”.

وعلى الرغم من النفور الذي استقبل هؤلاء القادمين الجدد من السكان المحليين، إلا أنه كان في نفس درجة الاحتراس من كل القادمين الجدد. ولكن الاندماج تم بشكل رائع، حيث، إن السوريين يتقنون الآن اللغة المحلية “كريول”، كما أن كثيراً من الأسماء السورية أصبحت محلية وطبيعية (كما هو شأن اسم “عمر” في كل أميركا اللاتينية)، مثل يعقوب، موسى، عبود، وهاجر، وكرّاز وغيرها. اندمج السوريون بشكل رائع فأصبحوا رؤساء بلديات ومسؤولين محليين نافذين.

وعلى الرغم من أن أغلبية السوريين، في مارتينيك الفرنسية، هم من الطائفة المسيحية، إلا أن علاقاتهم بإخوانهم المسلمين في غاية القوة والمتانة والتضامن.

ثم توَاصلت الهجرات إلى فرنسا، وخاصة مع موجات اللاجئين في حقب تاريخية مختلفة، من بداية الاستبداد مع الأسد الأب إلى الثورة السورية على الأسد الابن.

لاجئون في فترات زمنية مختلفة

في حكم حافظ الأسد تغير الأمر كله، فقد سمح النظام لكثير من الموالين له بالقدوم إلى فرنسا ومتَّعَهم بمنح دراسية قيمة. والواصلون السوريون، هم مثل العراقيين، وخلافاً للهجرة المغاربية، التي كانت لغرض اقتصادي، وكان أفرادها أميين أو شبه أميين، قدموا لمتابعة دراسات جامعية عليا. وقد نجحت أغلبيتهم في تحصيلها الأكاديمي والعلمي ففضلت الاستقرار في فرنسا، على أن تعود إلى بلادها الأصلية، بسبب جاذبية سوق العمل في فرنسا وأوروبا وأيضاً بسبب الاستبداد وغياب المسؤولية والمُواطَنَة في سورية.

وبعد اشتداد قمع نظام حافظ الأسد ضد شعبه، غادر كثير من المعارضين السياسيين سورية إلى فرنسا، هرباً من القمع والجرائم والإبادات. ومثلما هو شأن اللبنانيين فإن السوريين يوجدون في كبريات المدن الفرنسية، ويعملون في التجارة والخدمات، إضافة إلى جيش من الأطباء والمهندسين والباحثين والمدرسين.

الربيع العربي والثورة السورية

اضْطُرَّ أكثر من 5 ملايين سوري، منذ بداية الثورة السورية، لمغادرة أرض الوطن، مع اشتداد قمع النظام وإجرام المليشيات الأجنبية المؤيدة له، (من أفغانستان إلى لبنان، مروراً بالعراق)، وكان من المنطقي أن يصل بعضهم إلى فرنسا، بحكم التاريخ المشترك، وأيضاً بسبب وجود جالية سورية فيها.
ومنذ بداية تدفق المهاجرين إلى أوروبا وعدت فرنسا الرسمية باستقبال 30 ألف من طالبي اللجوء، أغلبهم من السوريين (وهو رقم ضئيل و”مُهين”، كما اعترف ساسة وحقوقيون فرنسيون بذلك)، مقارنة بالأريحيّة والكرم الألمانيين اللذين عبّرت عنهما المستشارة أنغيلا ميركل)، إلى نهاية سنة 2017. وعدد ما استقبلته، لحد الآن، يلفه الغموض، وأكثر التقديرات الإيجابية تتحدث عن استقبال 7000 شخص.

وتجدر الإشارة هنا أن العديد من السوريين عبروا عن رفضهم القدوم إلى فرنسا والبقاء فيها (حيث اشتعل نقاش، وظفه اليمين المتطرف الفرنسي وشرائح من اليمين التقليدي لصالحه، في غير صالح استقبال كثير من اللاجئين)، ويفضلون البقاء في ألمانيا (التي توجد بها جالية سورية وازنة)، ويفضلون بلداناً أوروبية أخرى، كألمانيا وبلجيكا. ومن بين كوابح القدوم إلى فرنسا الانتظار الطويل قبل الحصول على اللجوء في فرنسا، وهو تسعة أشهر، في المتوسط. إضافة إلى أنه ليس من حق الراغبين في الحصول على اللجوء الاشتغال في هذه الفترة، وهو ما يحرمهم من كل وسائل الحياة، تقريباً..

قابلية السوريين السهلة للاندماج

لم يأت السوريون إلى فرنسا بغرض العمل، كما هو شأن معظم المغاربيين والأفارقة في بداياتهم، بل للتحصيل العلمي، وكثير منهم تلقى دراسة وتكويناً عالياً في بلده، وهو ما سهّل عملية اندماجه في المجتمع الفرنسي بسهولة وسرعة قياسيتين، وجعلهم يساهمون في تقدم البلد ورخائه. وأما الجيل الثاني فهو أكثر اندماجاً من سابقه.

وحتى اللاجئون الذين قبلت فرنسا منحهم اللجوء والإقامة، والذين أدركوا أن “ظلم ذوي القربي أشد مضاضة” فهم في الطريق القويم نحو حياة الاندماج والمستقبل.

وكثيراً ما نقرأ في الصحف ونشاهد في وسائل الإعلام أمثلة نجاح في تحصيل اللغة أو النجاح في الدراسة أو في الاندماج والعمل، لهؤلاء الذين وصلوا قبل وقت قصير، تُثير الإعجاب.

ورغم أنه لا أحد يستطيع أن يتكهن بالمستقبل القريب، ولا بتطورات المفاوضات والأوضاع في سورية، إلا أن كثيراً من السوريين، رغم اندماجهم السريع والناجح، لا يرون مستقبلاً حقيقياً لهم إلّا في أرض الشام. خصوصاً بعد كل ما رأوه من النفاق الغربي في تطبيق معاهدة جنيف حول اللاجئين وتصاعد العنصرية واليمين المتطرف الأوروبي بشكل عنيف ومخيف.

بالمختصر: إنّ حنينهم وأملهم في العودة إلى وطنهم لَمّا يفارقهم، قط.