مزن الأتاسي: يوميات امرأة على هامش الثورة

كلنا شركاء: مزن الأتاسي- ضفة ثالثة

الجبل أمامي الذي اكتسب اسمه من احتلال فرقة “سرايا الدفاع” لتلاله، ففقد اسمه الأصلي الذي لا يكاد يعرفه أحد، وصار اسمه الرسمي “جبل السرايا” يبدو غائباً في الضباب، أو الغبار، أو آثار قصف.

شجر الكينا في حديقة البناء الذي أقطن لا زال منتصباً، ساكناً، بغياب الريح في الخريف وبحضرة ساكنيه من الطيور.

عصفور ينقر الفليفلة الحمراء من أصيص الزريعة وينبش في التراب فتتسخ أرضية البلكونة،

مشهد عادي متكرر منذ ثمانية وعشرين عاماً.

العنصر الوحيد الدخيل على هذا المشهد العادي المتكرر هو: الخوف من اختفائه.

شبيح

في كل يوم يقطع سكون صباحاتنا هيكل مبرقع على جنبه الأيمن مسدس ويتمنطق برشاش، يعلو موتورسيكلا ويجوب الحي رائحاً راجعاً مخلفاً زوبعة من الغبار، مطلقاً زموراً ثاقباً للهواء ولطبلة الأذن، وكأنه يستعين بهما ليرقي رتبته العسكرية، حيث إنه بلا رتبة ولا مرتبة، فهو لا يعرف عن نفسه سوى أنها هيكل مبرقع مسلح .. ودليل وجوده الوحيد هدير الموتورسيكل وزموره من صناعة جمهورية الصين الشعبية، هذا المشهد اليومي الطارئ مع رفع عقيرة الحرب على المؤامرة الكونية، يجعلني – لأسباب موضوعية ومنطقية – أشعر أن هذا الكون يشيخ .. ويتسع ثقب أوزونه بسرعة وما لم يجدوا حلاًّ عاجلاً لهذا التلوث البصري / السمعي، فحياة الكائنات مهددة بالانقراض، الاسم السوري الشعبي لهذا الهيكل: شبيح، ولهذه الظاهرة: تشبيح، وغني عن القول، إنها ظاهرة تنفرد بها سورية المقاومة والممانعة، حيث طريق القدس يمر بها.

حواجز

لأسباب غير معروفة غالباً، تنقض الذكرى علينا، لماذا أشم رائحة زهر الليمون في هذا الصباح الأغبر فأرى جنينة المتحف الحربي وأرى صديقتي تقف على جذع الشجرة لتقطف زهرتين واحدة لها وأخرى لي وهي تترنم بصوتها العذب الجميل: أمرة يا أمرة / لا تطلعي ع الشجرة / والشجرة عالية / وإنت بعدك صغيرة / ياااااااااااا آمرة /.

انتبهت أنني لم أعد أرى صديقتي كثيراً بسبب “الحواجز” العسكرية التي قطعت أوصال العاصمة، والمتحف الحربي لم أزره منذ أكثر من ربيعين، ثم .. انتبهت إلى أنني لم أكن منتبهة أن كل ذاك الجمال كان مرة واقعاً عشناه، وكان ملك أعيننا وملء أيدينا، كنا أناساً بريئين إلى حد لم يخطر في بالنا أنه ملك حصري للحاكم الأبدي، وأننا تمتعنا به لأنه سمح لنا بذلك، بريئون كنا إلى حد لم يخطر لنا أنه سوف يصبح مشهداً استعادياً من ذكرى كم صارت بعيدة .. لكنّ الرائحة متمردة .. عصية .. عاصية.. تخترق الحواجز .. وتهزأ بعساكرها.. وتمرّ…

فكرة

كلنا ضيوف على هذه الأرض، فلماذا يرغب بعض البشر في اغتصاب وظيفة ملك الموت، الذي يقبض أرواحنا في هدوء وسلام، ليقوموا بمهمته بكل هذا الضجيج والعنف .. والخراب أيضاً؟

عزرائيل: منحبك.

حمص يا سكني الأول

لا تعطي هذه المدينة الصغيرة كثيراً من الخصوصية الفردية لساكنيها، حيث معظمهم أهل وقرابة، بعد غزوة الغرباء لم يتبق فيها إلا غريزة البقاء لتدفع عن نفسها احتمال اختفائها من خريطة الوجود.

حمص يا سكني الأول

برطاش باب الدار، الدرجات الخمس التي تقود إلى قبو الدار، خزائن المطبخ، الجرارات، كاسات المي وفناجين القهوة، السجاد العجمي، ثريات الصالون، صور أمي وأبي وإخوتي، ركني في غرفة الجلوس، مكتبة أبي، كتبي رفيقة عمري، ويا كل الذكريات .. من الجسر الأول إلى الميماس .. من شارع الكنسية .. إلى مدرسة غرناطة.. من كرم الشامي .. إلى الخندق .. كونوا ناراً وحرّاقاً على الغرباء.. على الاحتلال الاستيطاني الجديد.. على من يريد خلق فلسطين مغتصبة أخرى.