on
د. كمال اللبواني: أحداث الحرم المقدسي ومأزق مفهوم الدولة اليهودية
د. كمال اللبواني: كلنا شركاء
قبل خسمين عاما تنازل موشي دايان ورئيس أركانه اسحق رابين ( يظهران في الصورة أعلاه) بسرعة وبشكل كامل عن السيادة على الحرم القدسي الشريف بعد احتلاله في حرب حزيران ، فهم من اليسار الصهيوني الذي يفكر بمصالح الدولة الجديدة التي اعتمدت العلمانية ، لكن هذه الدولة بعد ذلك بدأت تدريجيا بالتخلي عن علمانيتها ، حيث يدأب اليوم رئيس الوزراء الإسرائيلي نتانياهو على الطلب من الرئيس الفلسطيني محمود عباس الاعتراف بإسرائيل كدولة يهودية كشرط للتقدم في عملية السلام ، فالمشكلة الأمنية التي حصلت أخيرا في الحرم عندما فرضت اسرائيل قيود أمنية جديدة بعد قتل شرطيين من عرب اسرائيل يحرسون مدخل المسجد ، كشفت مقدار التوظيف السياسي للرموز الدينية ومدى تناقض مشاريع الدول الدينية مع مشروع السلام ، حيث ننتظر تصعيدا جديدا بحلول صلاة يوم الجمعة القادم حيث يرفض الفلسطينيون الصلاة داخل الحرم بسبب الإجراءات الأمنية ويتفاعل معهم ملايين المسلمين الذين تضيق بهم سبل العيش ويحتاجون لخوض حروب رمزية تعويضية تشعرهم بقوتهم وتضامنهم في زمن الانهيار السياسي والقيمي والأخلاقي والاقتصادي .
وبالعودة للدولة الدينية ، فقد عوّدنا التاريخ أن الدول التي تقوم على الدين عندما تنتصر تسعى لطمس معالم الدول المهزومة وتغيير معابدها ، وهذا ينطبق على المسيحية البيزنطية التي حولت معظم المعابد القديمة لكنائس ( مثالنا مطرانية حماه الأثرية القديمة التي نسفها جنود حافظ أسد عام 1982 فتبين أنها تقوم على معبد آرامي تموزي قديم يسبق المسيحية بأكثر من ألف سنة ) وكذلك ينطبق على الإسلام الذي حول الكثير من الكنائس لمساجد ( مثال الجامع الأموي الذي هو أيضا معبد آرامي قديم تحول لكنيسة ثم مسجد ) وكذلك المسجد الأقصى الذي بني في عهد الخليفة الأموي الرابع الوليد بن عبد الملك ، داخل السور المحيط بمعبد يهودي قديم ومنهار يعود لعهد سليمان أحد الأنبياء الملوك لبني اسرائيل ، فبنى المسجد على السور الجنوبي متوجها نحو القبلة في مكة ، بينما غطى بقية ركام المعبد في الوسط بقبة مذهبة كبيرة سميت قبة الصخرة ، التي يعتقد المفسرون أن الرسول قد عرج منها جسديا للسماء ، بعد أن سرى ليلا إليها ، وهي المكان المقصود بالمسجد الأقصى ، أي ليس ذلك المسجد الأقصى الذي يقع في الطريق من مكة إلى الطائف ، فالجمع (المسيس) للمفسرين بين أيات الإسراء والمعراج رغم تفاوت زمن نزولهم ، جعل من المسجد الأقصى المقصود بالإسراء هو المسجد الذي بنية بالقدس على أنقاض المعبد المنهار ، مع أنه يتوجه للقبلة في مكة ، حيث كانت القدس في زمن نزول الآيات هي قبلة المسلمين واستمرت إلى ما بعد هجرة الرسول للمدينة حيث أشار عليه عمر بأن يحول القبلة من القدس شمالاً لمكة جنوبا ، لكي يتمكن من جمع العرب حوله ، خاصة بعدما يئس من قبول اليهود العرب الدخول في دينه … وعندما سيفتح عمر القدس سيصلي أمام مدخل كنيسة القيامة حيث مايزال يوجد المسجد العمري هناك شاهدا على ذلك ، ولم يصلي في المسجد الأقصى الذي لم يكن موجودا كمسجد يومها …
في كل الأحوال التاريخ يقرره علماء التاريخ المحايدون ، لكن أن يقحم التاريخ في السياسة وأن يقرره السياسيون فذلك له مدلولات خطيرة تعادل تدخل السياسة بالدين ، وتدخل الدين بالسياسة … نحن هنا لا نقرر حقائق تاريخية لم يحسم النقاش فيها لكننا نشير لكيفية توظيف الدين في السياسة ، وتدخل السياسة بالدين ، في الماضي والحاضر ، وهو ما يتكرر اليوم فيما يخص الصراع الدائر في القدس . والذي يختلط بين (صراع شعوب على أرض ، صراع دول سياسية تقوم وتزول بحسب العوامل المعروفة لقيام وزاول الدول )، وبين (صراع أصوليات وتاريخ وهويات لا يمكن حله ). فشعارات سياسية كشعار أبدية اسرائيل ويهودية اسرائيل ، والقدس عاصمة موحدة أبدية … هي شيء يدخلها في عالم الرمز الديني المؤسطر ، ويبتعد بها عن الواقعية السياسي الذي تفرضها مصالح الدولة . وهذا التناقض بين مصالح الدولة الإسرائيلية وبين هويتها الدينية المقصودة ، هو الذي يتفجر اليوم كمأزق في وجه نتانياهو الذي لا يملك الكثير من الخيارات ليتجاوزه ، بل فقط اليسار الإسرائيلي الذي أسس دولة اسرائيل قادر على حله .
اسرائيل تدعي أنها الدولة الديموقراطية الوحيدة في المنطقة ، لكنها تتخلى عن علمانيتها وتنخرط بشكل متزايد في الصراع الديني الدائر في المنطقة بين الأصوليات الدينية المختلفة والذي بات يهدد باندلاع حرب عالمية من نوع جديد ، بمقدار تحكم هذه الأصوليات في السياسة ، واسرائيل التي تسعى للسلام مع الشعب الفلسطيني (الذي هجر قسم كبير منه) ومع الدول العربية التي احتلت أراضيها ، تتورط أكثر فأكثر في صراع ديني واسع ومفتوح عابر للحدود مع مليار ونصف مسلم ، وتخدم بذلك مشروع إيران الذي يتاجر بمثل تلك الحروب ، عندما يجيش الشيعة للانتقام للحسين بعد 14 قرن ، و يرفع شعار القدس لكي يكسب ود العرب ويقودهم ويهيمن عليهم . وفي حين تتهيأ الدول العربية لمحاربة التعصب والتطرف السني ولتقليص هيمنة ايران ونزعتها في زعزعة استقرار دول المنطقة ، يصب نتانياهو الزيت على النار بمقدار الامعان في تبني الأفكار الأصولية اليهودية ، التي تعطي المزيد من الشرعية للتطرف الإسلامي الشيعي والسني على السواء بل وتوحدهم معا على عدائها ، وهكذا فالدولة التي تسعى جاهدة لضمان بقائها ، يقوض سياسيوها فرص السلام مع جيرانها ، ويستعدون من جديد محيطها الهائل الحجم بالنسبة لها ، ويضعونها أمام أخطار وجودية من نوع آخر عندما يصرون على تحويلها من دولة سياسية لدولة دينية لأهداف انتخابية تتعلق بكسب أصوات المتدينين الذين لا يشكلون أغلبية في شعب اسرائيل العلماني .
هل سيستمر اليمين الحاكم في سياساته هذه ، وهل سيستمر نتانياهو في طلب الاعتراف باسرائيل دولة يهودية ؟ هل ستنجح الأصوليات في جرنا للمزيد من الحروب الأسطورية العبثية ، أم أن هناك فرصة أمام الشعب الفلسطيني و اليسار الإسرائيلي لإعادة بناء مفاهيم السلام بواقعية سياسية ، وإغلاق أسباب الحروب الدينية التي تجتاح المنطقة ولا منتصر فيها .
Tags: محرر