قصة أيقونة الثورة السورية الذي يخشى الصداقة ويرفض الرحيل عن بلاده إلا لهذا المكان البعيد

كلنا شركاء: هاف بوست عربي

“التمريض” كان كلمة السر التي جعلته أحد أيقونات الثورة السورية، التي تخلَّى من أجلها عن حياته الشخصية، وتعذَّب أهله، وفقد أصدقاءه.

ورغم النكسات التي أصابت هذه الثورة والتهديدات بالاغتيال التي يتعرض لها، فإنه يؤكد أنه لن يغادر سوريا إلا لمكان واحد (الجنة)، وأنه مهما حدث لن يتخلَّى عن ضحايا الحرب من الجرحى والأرامل والأطفال اليتامى.

بدأت علاقة الشاب السوري هادي العبدالله بالثورة من خلال التمريض؛ إذ استغلَّ دراسته للتمريض للعمل بالمستشفيات الميدانية، ولكنه سرعان ما انتقل إلى الميدان الإعلامي الذي نشط وتميَّز به، وأصبح من أبرز الناشطين، والمصدر الرئيسي أحياناً لمعظم وكالات الأنباء المحلية والعالمية.

ورغم صغر سنه ومحاولات اغتياله المتعددة، فإنه لم يترك جبهة حرب ساخنة إلا وكان في الصفوف الأولى ينقلها لحظة بلحظة، وتعرّض لإصابات كادت أن تودي بحياته، ولكنه ظلَّ يؤثر الثورة على كل شيء، فهي حبه الوحيد، كما يقول في حوار مع “هاف بوست عربي”.

صوت الحقيقة


الشاب الذي تفوَّق في دراسة التمريض، فعمل معيداً في هذا المجال، أحلامه وطموحاته الشخصية والمهنية ربما لا تشبه الكثير ممن هم في عمره، فقد ارتبطت بالثورة، التي بدأت وهو في العشرينيات من عمره، ولكنه لم يكن يتوقع أن تطول مدة الثورة التي استلهمت الثورتين المصرية والتونسية.

يقول لـ”هاف بوست عربي”، إنه منذ بداية الثورة السورية حاول كثيراً أن يغيِّب الجانب الشخصي على كل المستويات، وعاهد نفسه أن يكون صوتاً للحقيقة، بعيداً عن قناعاته الشخصية.

يضيف: “لقد تعاهدت مع صديقي الراحل “طراد زهوري”، وهو أول رفيق لي في الثورة ألا أشغل أي منصب، وبالفعل جاءتني عروض مع بداية تشكيل “المجلس الوطني السوري” أن أكون عضواً فيه، ثم عرض آخر بأن أشغل أحد مقاعد أعضاء “الائتلاف السوري”.

لم يقتصر الأمر على ذلك، فحسب ما كشف العبد الله لهاف بوست عربي “فقد فُتِحت أمامه أبواب أن يكون قائداً عسكرياً ويشكّل كتيبته الخاصة، إضافة لعروض مالية ومناصب أخرى لا حصر لها، ولكنه كان حريصاً أشدَّ الحرص ألّا يقبل، وأن يصبح فرداً عادياً يعمل من أجل الثورة بقلبه وروحه وعقله.

إذ يقول “لقد تعاهدت مع رفيقي الراحل طراد زهوري، أنه حتى وإن سقط “نظام الأسد” أن ننقل آلام ذوي الشهداء والمصابين”.

سيفاجئك أكثر شيء يخاف منه

يقول هادي العبدالله “فقدت كثيراً من أصدقائي، وفقدت خالي، وبعض أولاد أعمامي، ولي عم معتقل، ولكن أكثر من فقدتهم ويؤلمني رحيلهم رفيقاي “طراد وخالد”، فحبي لهما أكثر من روحي، حسب تعبيره.

أما عن الحلم الذي يرافقه في كل زمان ومكان، فهو تحرير سوريا ووقف الدماء بما يضمن حقوق الشهداء والمعتقلين والمهجّرين والمصابين، ويحيا على أمل تحقيقه.

ويؤكد العبد الله أن عمله ليس حصراً على العمل الإعلامي فقط، بل إنه شارك بالعمل المدني في الداخل، كإنشاء مراكز “للدعم النفسي للأطفال”، “دعم المرأة في التعليم، والصحة النفسية، وكيفية إنشاء مشاريع صغيرة، لاسيما لزوجات الشهداء والمعتقلين والمصابين” و”عيادات متنقلة”.
ويقول العبد الله في هذا الشأن، لقد أنشأنا “مركزاً لتدريب كوادر إعلامية” بعد ملاحقة النظام لهم إما بالقتل أو المطاردة، مما يضطر البعض للهجرة.

لن أغادر سوريا إلا لهذا المكان

عكس ملايين السوريين، لا يحلم هادي بالانتقال خارج بلاده إلّا للجنة، يقول: “أنا اتخذت قراري منذ اندلاع الثورة وحتى الآن، بأنني لن أغادر سوريا إلا شهيداً أو مصاباً، وهذا ما حدث، فعند إصابتي انتقلت للعلاج بتركيا أربعة أشهر، ثم عدت لأكمل مسيرتي مرة أخرى”.

وأضاف قائلاً: “وضع قدمي صعب للغاية، وبحاجة لعملية “زرع عظام”، ولكن لو أجريت هذه الجراحة، فهذا يعني أنني سأتوقف عن العمل أربعة أو خمسة أشهر، وهذا وقت كبير بالنسبة لي في البعد عن وطني، وقد يتسبب لي بعقدة نفسية، ففضلت العيش على المسكنّات المستديمة على أمل الشفاء، ومهما ضاقت الأمور فلن أخرج من سوريا إلا للموت، هذا عهد لا رجعة فيه، قطعته على دماء خالد وطراد رفيقيّ اللذين فقدتهما”.

لماذا تسبب في معاناة عائلته؟

يروي هادي العبدالله معاناة أفراد عائلته بسبب دوره في الثورة، قائلاً: “لم يشارك أي منهم في رحلة الهجرة، لأن الفكرة مرفوضة بالنسبة لهم، جميع أفراد أسرتي عانوا من نظام الأسد وحلفائه، فأخي الأصغر “شادي” تعرّض لإصابات بالغة الخطورة بالقصير من قبل عناصر حزب الله اللبناني، أما عن أخي الأصغر منه “منذر” فقد تعرّض لإصابات خطيرة جداً مرتين، واستؤصلت أجزاء من بطنه، وزوج أختي تعرَّض لإصابه بوجهه”.

أما عن أبيه، فيقول العبد الله “عندما توجَّه للبنان اعتُقل من قبل المخابرات اللبنانية، وتُهمته الوحيدة أنني ابنه، وفي أثناء التحقيق معه وجد صوري مطبوعة على أوراق كالمجرمين واللصوص والجواسيس، وسألوه هل هذا ابنك؟ ومع كل مرة يجيب “نعم” كان يُضرب على رأسه حد الإغماء”.

وتابع قائلاً: “كان أبي مهدداً في لبنان بالتسليم للنظام السوري، وكانت أقسى أيام حياتي، غير أنه ذهب من هناك إلى تركيا، ومن وقت وصوله إلى هناك جاءتني عدة تهديدات من النظام السوري ومن داعش، بأنهم يعلمون أين أهلي، ومن الممكن أن ينالهم أذى”، وأردف قائلاً: “هذه هي ضريبة الطريق الذي اخترته”.

ماذا فعل عندما خيَّروه بين الحب والثورة؟

ليس قراراً اتخذته، بل هو واقع فُرض عليَّ، يقول العبد الله: “إن حالي حال الكثيرين من الشباب ممن يودون أن تكون عندهم أسرة صغيرة، خاصة أنني أحب الأطفال كثيراً، فالظروف التي عشناها كانت تؤخر هذا القرار كل مرة”.

وأضاف: “منذ فترة ليست بالبعيدة، كان هناك مشروع خطبة، ولكنه لم يكتمل لأسباب عديدة، أهمها أنني وُضعت بين خيارين أحلاهما مرّ، مَن اخترتها وأحببتها أو الثورة!

ويستدرك قائلاً: “لكن الثورة فوق كل شيء، وأجمل من كل الخيارات، وأكثر ما كان يؤلمني هو أن والداي يكرِّران دائماً لي إذا “مت” فسنحتسبك شهيداً، ولكن أترك لنا من هو عوض عنك يحمل اسمك ويذكّرنا بك، ولكنني أحاول أن أجمع بين الزواج والثورة”.

أما عن مواصفات شريكة حياته التي يتمنَّاها، فيقول “فأولاً وأخيراً أن تؤمن بالثورة درجة الإيمان الذي أؤمن أنا به، فتكون شريكتي في الثورة كما هي بالحياة الشخصية”.

ما سرُّ علاقته بـ”خالد” و”هادي”، وتجنُّبه مرافقة غيرهما؟

“السر”، كما يقول هادي، “ينقسم إلى شقّين، أحدهما يتعلق بشخصية خالد والآخر يتعلّق بطبيعة عملنا، أشعر بأن خالد لم يكن شخصاً عادياً، فدائماً كنت أخبره عن مدى حبي له وتعلقي به كالطفل الصغير، فطيبة قلبه كانت تأسرني جداً، وكذلك حبه لي وحرصه عليَّ، فأصبح بيننا تناغم وتخاطر روحي عالٍ”.

ويضيف قائلاً: “أما الشق الثاني، فهو طبيعة العمل، فنحن شاهدنا الموت بأعيننا مراتٍ عديدة، وسافرنا وأمضينا أياماً مع بعضنا البعض، أكثر مما أمضيناها مع ذوينا”.

ويتابع بأسى قائلاً: “إلى الآن لا يصدق عقلي وفاته، وعندما تضيق بي الدنيا أذهب إلى قبره وأمضي بصحبته ساعات، وأروي له جلَّ التفاصيل، وأشعر به يسمعني، وأخوض نقاشات طويلة معه، لن يعوضني عن خالد أحد”.

ثم يقول “أما الآن فأكثر من يقف معي “رائد”، وهو مَن عرَّفني على خالد، ولكنني أصبحت أخاف أن أخبر أحداً بحبي له فيخطفه الموت مني كطراد وخالد، فأصبحت أهاب الارتباط بصديق كمهابتي الموت، حتى إنني أخبرت رفيقي الجديد بالعمل “محمد ضاهر” بذلك”.

اغتيال

يقول العبد لله “قبل محاولة اغتيالي الأخيرة في حلب بيومين، التي استشهد فيها “خالد” تعرَّضنا لإصابة بمنطقة “جسر الحج” بحلب خلال تغطية مجزرة، وأثناء تواجدنا هناك أخبرونا أن هناك طيراناً مروحياً يقصف، وبالفعل سقط علينا في إحدى الغارات براميل متفجرة، أبعد برميل فيها كان يبعد عني مسافة عشرة أمتار تقريباً، وبلطف الله خرجنا منها، ولكن أصابتني خمس شظايا في رأسي، وخالد أربع شظايا بجبينه.

ويضيف: “حينما عدنا قلت له: خالد انتبه على نفسك كثيراً، لأنه إذا أصابك شيء سأجنّ أو أموت”.

ويستذكر ذلك الشعور قائلاً: “كنت أحيا بفوبيا الفقدان، فأخشى أن أخسر خالد كما فقدت طراد، لاسيما أنني تعلقت بخالد تعلّقاً جنونياً، ولم أتركه يذهب لأي تغطية بدوني، وإذا كان هناك ممر أو غيره أسبقه حتى أمرَّ أنا أولاً”.

ويضيف كنت أقول له: “إذا أصابك شيء سأصعد إلى أعلى منطقة في حلب وألقي بنفسي منها لأنتحر، فردَّ عليَّ خالد بصوت جاد ونبرة حاسمة: إذا أصابك شيء فسأكمل الطريق الذي تعاهدنا عليه معاً، وإذا أصابني شيء فلا خيار أمامك إلا ذلك أيضاً”.

ويردف قائلاً: “وكان هذا الموقف ليلة اغتيال خالد وإصابتي”.. وهو مستمر في تنفيذ وصية صديقه.





Tags: الثورة السورية, سوريا, هادي العبدلله