on
Archived: نجيب أبو فخر: الرائد الشهيد سليم حاطوم في ذاكرة الحقيقة
نجيب أبو فخر: كلنا شركاء
هي أيام قليلة تفصلنا عن الذكرى المؤلمة لاستشهاد بطل ٍ وطنيٍّ سوريًّ شجاع، يصح ّ أن نقول عنه أنه قلّ نظيره فعلا، وموجعٌ مع تجدد ذكرى ارتقاءه شهيدا لكل الوطن ، أن نستمر في تجاهل حقائق تنصف ذكراه، في الوقت الذي زوّر قَـتَـلته التاريخ ، ووشموا صدورهم بالنياشين ، وسَطَروا عن ذواتهم الخائنة ، حكايات ٍ حروفها من دجَل ، وشواهدها من نفاق ٍ وزيفٍ بدأ َ يتكشّف مع طول الزمن …
الرائد المغوار سليم ذوقان حاطوم ، إبن قرية ذيبين الحدودية في أقاصي الجنوب السوري ، كان ينحدر من أسرة متعلمة ومثقـّفة ، تنتمي لطبقة الفلاحين التي تحاكي في طيبتها طبيعة الأرض الخيّرة ، وتشبه في جلادتها حجارة البازلت الصمّاء التي تشكّل بيوتهم المتواضعة فتعطيها أبّهة الحصون المنيعة من الخارج ولطافةً في المقام في الداخل، وهكذا كان الشهيد صلبا في مراسه، طيبا في معشره ، كريما في نفسه، وواثقا في خطاه، ومخلصا في انتماءه، ووطنيا حتى نقيّ عظامه في توجّهاته وسلوكياته .. وربما كانت سجاياه هذه هي التي حفظت له كل ذِكرٍ طيب في ذاكرة كلّ من عرفوه ، لتصبح سيرته قصّة ملحمة وطنية تتناقلها الأجيال ، رغم كل الزيف الذي حاول مغتصبوا الوطن أن يلصقوه به ، ورغم الملايين التي أنفقوها من دم الشعب ليزورا تاريخه ، ويصنعوا على أنقاضه تاريخا مشرّفا لهم ، لكن هيهات هيهات أن يستكين الدم البريء عن حقه بالإنصاف ، وخصوصا إن كان صاحبه يحمل من الشهامة والمروءة ونبل الأخلاق وحسن المعشر ما كان يحمله الرائد سليم حاطوم لكل من عرفوه ..
في هذا المقال المختصر، لا يمكنني الخوض بسيرته الذاتية، ولا بتفاصيل حياته ونضالاته ، فهي مغروسة في روح كل وطني شريف ، يحملُ روحاً توّاقة للحقيقة ، فأخذ على عاتقه معرفتها والبحث عنها ، إلا أنني سأوجز الكلام عن النقاط الإشكالية التي استند إليها نظام الإجرام في دمشق خلال سعيه تلويث سيرة الشهيد الرائد سليم حاطوم ، لتبرير جريمته في تصفية هذه الهامة الوطنية الباسلة ، لا بل وحشد الرأي العام لمناصرة هذه الجريمة النكراء … ولا بد لي من التعريج على الظرف العام في سوريا في مرحلة الستينات التي كانت تؤسس الوطن السوري برمته ليكون مزرعة شخصية مهمتها حماية أمن إسرائيل بالدرجة الأولى ولو على حساب كل المستقبل السوري ..
الرائد المغوار المظلي سليم حاطوم كان قائدا لسلاح المغاوير في الجيش السوري ،الذي كان يتمركز في محيط دمشق لحماية العاصمة ، مع وجود رأس حربته في جبهة الجولان ، وكانت وحداته دائمة الإشتباك مع الجيش الإسرائيلي ، وتشهد ملفات الأمم المتحدة أنه وخلال عام واحد تقدمت اسرائيل ب165 شكوى للأمم المتحدة ضد سوريا بسبب ما أسمته استمرار الإعتداءات من الجيش السوري ( قوات المغاوير ) ، أي بمعدل هجوم كل يومين تقريبا ، والسبب هو أن الرائد سليم حاطوم المتنفذ في وحدته الشبه مستقلة كان يدرب جنوده تدريبا حيا آنذاك ، فيحررون قرية ليلا وينسحبون منها نهارا إلى ما وراء خطوط الإشتباك (( يمكن مراجعة شكاوى اسرائيل للأمم المتحدة في الفترة من عام 1963 -1966 ) وملاحظة كيف انعكس هذا الحال تماما بعد عام 1966 )) وبالتأكيد قد يقول قائل إن سليم حاطوم ما كان بمقدوره أن يفعل ذلك لولا علاقته الشخصية ، بوزراء الدفاع المتلاحقين كعبد الكريم زهر الدين وحمد عبيد ومحمد عمران ، لكن هذا الإفتراض غير صحيح ، مع أنه قد يكون له تأثير غير مباشر ، لأن الرائد سليم حاطوم كان عضواللجنة العسكرية المصغرة الحاكمة لسوريا كلها منذ زمن حركة الضباط البعثيين التي سميت لاحقا بثورة الثامن من آذار ، بعد أن وضعوا المدنيين البعثيين في واجهتها ، دون أن يعرف هؤلاء عنها شيئا أو يساهموا بها ، وذلك لإعطائها شرعية الثورة المدنية وبالتالي قبولها دوليا كنتيجة تتحكم بمصير سوريا .. وحتى أن سليم حاطوم انتخب كعضو قيادة قطرية في حزب البعث آنذاك وهذا ما كان يمنحه نفوذا كبيرا بحد ذاته وخصوصا أن الأحكام العرفية كانت تحكم سوريا منذ عام 1963 وتمنح اللجنة العسكرية المغطاة بثوب القيادة القطرية صلاحيات شبه مطلقة للحفاظ على ثوابت الثورة وعلى رأسها ( تحرير الأراضي العربية المغتصبة ) ، إذا : فإن سليم حاطوم ( افتراضيا ) ما كان يتصرف خارج سياق متفق عليه مع القيادة السورية آنذاك والتي كان واحدا من أعضاء مجلسها . لكن ما حدث في معركة تل النيرب كمثال – حين كانت اسرائيل تخطط للسيطرة على مياه المنطقة الجنوبية بعد أن جففت بحيرة الحولة وسيطرت على طبريا وكانت في مسعى لتحويل مجرى نهر الأردن للجزء الشمالي من صحراء النقب – فاشتبكت معها قوات المغاوير السورية وأوقعت في صفوف العدو الإسرائيلي عشرات القتلى ودمرت لهم من الآليات والمدرعات العشرات أيضا ( والتي تم عرضها في ساحات دمشق لاحقا ) (( مذكرات الضابط شحوذ عطاس الأتاسي )) فما كان من القيادة في سوريا إلا أن عرضت سليم حاطوم على المحاكمة العسكرية بتهمة خرق قواعد وقف إطلاق النار .. وطبعا تذرعت بأنه إجراء شكلي للرد على شكوى إسرائيل أمام الأمم المتحدة آنذاك !!!
ربما كان وجود سليم حاطوم القائد دائما في صفوف المغاوير له أكبر الأثر بتوسيع نفوذه العسكري ، وزيادة عدد محبيه والمؤمنين به كقائد وطني صادق ، وربما ساعدت خبرته وكفاءته القتالية في صعود نجمه ، كيف لا ؟ وهو الذي ساهم بتميز ، في إنجاح حركة الثامن آذار ، 1963 ومن بعدها حركة 23 شباط 1966 والشاهد ما ورد على لسان قاتليه ، في كتاب (( محاكمة المتآمرين في حركة 8 أيلول 1966 )) حين ذكروا حرفيا عن الرائد سليم حاطوم : (( وغرّه أنه كان بطل حركة 23 شباط )) وهذا إقرار منهم بأنه كان بطل الحركة التي استلبوها هم فيما بعد وقاموا بتصفية كل رموزها ليمتطوا صهوة الوطن لعقود فيما بعد .. فما هو الذي كان يدور في الخفاء ليحدث كل ماحدث ؟؟
كانت اسرائيل والولايات المتحدة قد بدأتا بإعادة تفعيل آلية الحكم العثمانية في المنطقة والتي كانت تقوم على حكم الدول بالأقليات ، وحكم الأقليات بالأقليات ، وكان هذا المشروع في أوجه بعد أن قام – في وقت سابق – كلا من محمد عمران رئيس أركان اللواء المدرع 70 و المقدم صلاح جديد نائب مدير شؤون الضباط والرائد حافظ الأسد قائد مطار الضمير العسكري ، وكلهم أعضاء في اللجنة العسكرية المركزية ، باستبعاد أكثر من 40 (( سنّي )) من المراكز المؤثرة في الجيش بحجة أنهم غير بعثيين ، وفي المرحلة الثانية بعد أن أصبحوا ضمن ما سمي بمجلس قيادة الثورة وباستخدام عدد من الضباط السنة الضعفاء من أمثال أحمد سويداني تم استبعاد الضباط السنة البعثيين المؤثرين من مراكز القرار العسكري من أمثال رئيس الأركن السابق زياد الحريري وقائد اللواء 70 حسن الجلاغي ومدير المخابرات العسكرية محمود حاج محمود واستبدالهم بضباط مطواعين يسهل التحكم بهم وتسييرهم على النحو الذي يريدونه ، فتم لأحمد سويداني أن بات مديرا للمخابرات العسكرية ، وأصبح مصطفى طلاس قائدا للواء المدرع الخامس بعد أن اختطف قائد اللواء العقيد صلاح نمور واقتاده مخفورا لدمشق بناءا على طلب من صلاح جديد شخصيا ..
في الكواليس كان ثمة دور لتثبيت نظام حكم الأقليات يلعبه المدعو (( كامل أمين ثابت )) والذي تكشّف فيما بعد أنه كان الجاسوس الإسرائيلي : إيلي كوهين ، حيث أمضى طيلة سنوات ثلاث في دمشق وهو يمهد الطريق لتثبيت نظام حكم يحمي إسرائيل وينهي حالة التهديد التي تعيشها قبل عام 1967 ، كان لكوهين علاقات وثيقة مع معظم القيادات السورية في فترة عمله كجاسوس فوق العادة في دمشق قبل أن يفتضح أمره عام 1965 وتُـعجّل تلك القيادات المتورطة معه بإعدامه حتى تموت معه أسرارهم ، كان كوهين يعرف أكثر مما ينبغي لمخلوق معرفته عن خصوصيات ضباط القيادة في سوريا وخصوصا حافظ الأسد بالدرجة الأولى وحتى خصوصياته العائلية وحقيقة غيرة حافظ الأسد الشخصية من صلاح جديد وهم الذين سعوا بعد إعدامه باتهام أمين الحافظ بأنه سبب إحضاره إلى سوريا ، كما عملوا على تغيير كل الحقائق عن علاقاته بمجتمعات القيادة المخملية في دمشق ليخفوا تورطهم العميق معه ، وفي الواقع إن ما تم عرضه من عدة دول على القيادة السورية في ذلك الزمن لقاء تسليم كوهين كان يعادل ميزانيتها العامة لعشر سنوات لاحقة، لكن القيادة عجلت بإعدامه وحتى أنها لم تفكر باستبداله بأسرى سوريين لدى إسرائيل فقط لأنهم كانوا يخشون افتضاح أمرهم ، وتخريب مشروع حكمهم لسوريا مستقبلا حسبما كانوا يأملون .. وهكذا أعدم كوهين لكن خطته التي وضعها ورجاله الذين جندهم بقيا يتحكمون بمصير سوريا ويتابعون في تصفية خصومهم لتثبيت أسس الحكم الذي سيلعب مستقبلا دور الشرطي الحامي لأمن اسرائيل ..
سليم حاطوم كان عضوا في المحكمة العسكرية برئاسة صلاح الضللي التي حاكمت كوهين لكنه بالتأكيد لا يتحمل مسؤولية الحكم بهذه القضية الحساسة جدا مالم تكن كل قيادة البلد في سياستها العامة متبنية لها بذريعة أن لا يفكر أي جاسوس اسرائيلي بدخول سوريا مستقبلا ، وهذا لا يمكن أن يكون بابا لاستجرار أية اتهامات لشخص الرائد سليم حاطوم أبدا نتيجة محاكمة يتابعها العالم برمته وكل منظومات الحكم في سوريا تحديدا في ذلك الوقت ..
في تلك المرحلة وبعد أن اطمأن الحال لحافظ الأسد شخصيا ، بدأ بالتحضير لتصفية الضباط الدروز و الإسماعيلية من مراكز القرار ، فبدأ العمل أولا على تقوية نفوذ شقيقه رفعت الأسد في الكواليس ليكون بديلا سريعا يملأ الفراغ الذي سيتركه سليم حاطوم قائد سلاح المغاوير الذي زادت صلاحياته لتشمل أمن المراكز الحساسة في العاصمة مثل الإذاعة ورئاسة الأركان ، وجاءت حادثة الجامع الأموي ، حين دعا الشيخ حسن حبنّكة الميداني ( أحد كبار العلماء الدينيين في دمشق ) لاعتصام لتجار دمشق في الجامع الأموي احتجاجا على الأحكام الإقتصادية والتأمينية الجائرة باسم الثورة ، فأصدر وزير الداخلية آنذاك (فهمي العاشوري) أوامره باقتحام الجامع وفك الإعتصام بالقوة ، وبدأت بالدخول عربات وزارة الداخلية المصفحة ، ثم تدخلت قوات تابعة لرفعت الأسد شخصيا ، وبعد ذلك تم الطلب إلى سليم حاطوم بسبب تواجد قوات قريبة له بالمؤازرة فأرسل قوات مؤازرة لفك الإعتصام وعندما وصلت كان الإعتصام قد انقضى ، لأن قوات عزت جديد ومصطفى طلاس وصلت قبله .. لكن سرعان ما انتشر في الأوساط الإعلامية أن الضابط ( الدرزي) قد أدار مذبحة بحق أهل السنّة !! علما بأن من طلب من سليم حاطوم المؤازرة كان يعلم بانتهاء الاعتصام لكنه كان يريده كبش فداء ليغطي بها جريمة غيره ومع هذا فقد خرج وزير الداخلية فهمي العاشوري ( السني ) على الإعلام وقال حرفيا : ( لو وقفت الكعبة في طريقنا لهدمناها ) .. إلا أن إعلام الإخوان المسلمين الذين كانوا مهتمين بتأجيج وتفعيل تداعيات ( عصيان حماة ) في ذلك الوقت والذي حرّكه القيادي الإخواني مروان حديد آنذاك لم يلتفت لتصريحات وزير الداخلية السني ، بل ركّز على اتهام الرائد الدرزي سليم حاطوم بمجزرة الجامع الأموي لتثبيت أكذوبة المظلومية السنية خدمةً لمصالحه السياسية كالعادة .
لقد كانت هذه الحادثة هي الذريعة التي سيحملها حافظ الأسد وأعوانه في اقناع الشركاء للمرحلة القادمة لتنفيذ خطته في تصفية الضباط الدروز من الجيش ومن القيادات الحزبية ضمن خطة احلال الضباط والمسؤولين العلويين مكانهم ، إلا أن حل القيادة القطرية على اثر هذه الحادثة قد تسبب بتأجيل ما هو مقرر .. إلى أن قامت القيادة المذكورة بحركة 23 شباط 1966 التي جاءت بنور الدين الأتاسي وصلاح جديد إلى سدة الحكم تحت شعار الثورة الشاملة ، ليبرز من جديد الثقل القوي للرائد سليم حاطوم ودوره في تغيير موازين القوى ، وكان بشهادة خصومه وحلفاءه بطل هذه الحركة قولا وفعلا ، إلا أن كلاهما ، الخصوم والرفاق ، تنبّها إلى خطورة وضع سليم حاطوم كمركز ثقل في محيط العاصمة مركز القرار في دمشق ومركز عمل التنظيم الموازي أيضا ، لذلك سرعان ما بدأت عملية تنقلات في الجيش وتغييرات في الحزب طالت الكثيرين من الذين يعتبر سليم نفسه مقربا منهم ويجد في تقاربهم قوة له ، ومع أنه حاول تفهم الأمر في البداية على أنه تغييرات ضرورية . لكنه طبعا لم يمنعه من تهريب الزعيمين البعثيين صلاح البيطار وشبلي العيسمي اللذان كانا موقوفين في استراحة وزارة الدفاع تحت حماية القوات التابعة له خشية أن يلحق بهما أذى من التغييرات القادمة والتي لا يعرف عقباها أحد ، حتى أن الرائد الشهيد سليم حاطوم نفسه بدأ يشعر بالخطر على نفسه ، عندما عُـرضت عليه العديد من المناصب السياسية فرفضها وقال أنه ضابط بعثي ومكانه في الجيش ، ثم عرضوا عليه التفرغ للحزب ، فرفض أيضا وقال أن مجاله هو ميدان المعركة وأنه ليس خبيرا بشؤون الأحزاب والسياسة ، وبعد فترة تم إيفاده إلى كوبا في مهمة عسكرية ، لكن الحال لم يستقر له هناك عندما جاءه اتصال من دمشق يعرض عليه البقاء في كوبا كملحق أو مستشار عسكري أو حتى سفير !! وهنا شعر سليم حاطوم أن نية إبعاده عن الأحداث واضحة ولا تحتمل الشك فأقفل عائدا إلى دمشق ، وعند وصوله لدمشق كانت وحدات الجيش التابعة له كلها في استقباله حتى ان سيارته رُفِعت على الأكف ، وهذا ما زاد امتعاض من كانوا يريدون ابعاده عن المشهد ، حيث اعتبروا أن هذه سابقة فاضحة في الانضباط العسكري لأن القوات تركت مواقعها واحتشدت لاستقباله ، في حين كانت في حقيقة الأمر تتحسب لنفوذ هذا الرجل المتزايد وشعبيته الصاعدة . لهذا كان على خطة تصفية الدروز من قيادات سوريا أن تبدأ بأسرع وقت ، ولا يهمنا هنا ما تمت كتابته في التاريخ حول أسباب اعتقال حمد عبيد ، أو ملاحقة اللواء فهد الشاعر ، أو استبعاد حمود الشوفي البعثي البارز أو احتجاز منصور الأطرش أو طلال أبو عسلي أو ما كان يحدث مع القيادي شبلي العيسمي خلال كل تلك الفترة ، فمهما اختلفت الأسباب المكتوبة زورا في التاريخ فإنها كلها قد تم نسجها لتلائم الهدف المنشود في تصفية القيادات الدرزية من جميع مفاصل الدولة وخصوصا أن كل هذه الأسماء لها تأثير كبير في الحياة السورية عامة ، ومنهم من له تأثير لما هو أبعد من جغرافيا سوريا من أمثال الأستاذين حمد عبيد وشبلي العيسمي ، وبالتالي كل واحد منهم يمثل حجر عثرة في وجه إنجاز عملية تحويل حكم سوريا بالكامل إلى حكم علوي مطلق ، يتشاركونه مع شخصيات ضعيفة من باقي الطوائف ،من جهة أخرى فإنه ليس صحيحا أبدا أن سليم حاطوم كان مستاءا من أن النظام لم يكافئه على بطولاته في 23 شباط أو غيرها ، وأنه تحرك بدافع شخصي ، لأن المطالب التي كان يحملها لا تبتعد قيد أنمله عن مطالب تحافظ على وطنية سوريا وعدم تحويلها لمزرعة لحساب أحد .
لقد خطط الرائد الشهيد لانقلاب جديد يعيد الحكم التشاركي في سوريا ، ووضع يده بيد منيف الرزاز القائد البعثي الذي ترأس التنظيم المدني ، في حين كان اللواء فهد الشاعر هو قائد التنظيم العسكري ، ولو راجعنا أهم خمسين اسم في المشاركين بهذا الانقلاب لوجدنا عشرة منهم فقط من الدروز والباقين من الأغلبية السنية وبضعة مسيحيين واسماعيليين ، كان الهدف من الانقلاب هو تحطيم مشروع عَـلونة سوريا واعادة التوازن لحكم الوطن لحساب جميع السوريين ، وفيما عدا ذلك فإن كل المحاولات لإسباغ الصفة الطائفية على محاولة الإنقلاب هي أكاذيب زرعها اعلام البعث آنذاك الذي اعتاد – حتى اليوم – أن يخوّن كل من يقف في وجه المتنفذين في قياداته ويعتبرهم جزءا من مؤامرة كونية تطال صمود البعث الأسطوري في وجه كواكب الكون مجتمعة !! إلا أن كل صاحب وعي وضمير يدرك تماما ماهية المشروع الوطني الذي كان يعمل عليه هؤلاء الرجال الشرفاء بمراجعة الظرف التاريخي للأحداث من جهة وانتماء الأسماء المشاركة في الإنقلاب من جهة ومقارنة ما وصلت إليه سوريا من حال مهترئة من تدمير ممنهج للدولة الحامية والراعية طيلة العقود السابقة بعد أن استقر الحال بانتصار قيادات البعث على المؤامرة الكونية – إن صح التعبير !!
ومع ذلك ، فإنه من الطبيعي أن يختار الشهيد سليم حاطوم السويداء مكانا لتحقيق انقلابه ، لأن اجتماع القيادة كان مقررا هناك وليس لأنه هو استجرّهم إليها ، كما أنه – ولأنه كان صادقا وواثقا – قام بإطلاق سراح المحتجزين على أمل أن يحققوا لائحة المطالب الوطنية التي تقدّم بها إليهم سلميا .. ولم يكن يتوقع أبدا أن يقوم حافظ الأسد بالتهديد بضرب السويداء وقصفها بالطيران ، فاختار سليم حاطوم الذهاب للأردن دون أي تنسيق مسبق ليس لأنه جزء من مخطط عالمي بل لأنه أراد حقن الدماء ولم يشأ أن يكون سببا في إهراق نقطة دم بريئة واحدة .. كانت هذه خيارات الرجال التي لا تغامر بحياة الناس البسطاء لخدمة أحلامها مهما كانت أحلامها سامية . ، وبعد كل هذا فإنه من الطبيعي جدا في عالم تسوده الصراعات ، أن يحاول من الأردن فعل شيء ما ليحقق ما فشل في تحقيقه أول مرة ، وكان يثق بنجاحه ليس لأنه يعرف أنه بطل خارق أو لأنه سوبرمان عصره ، بل لأنه كان يثق بأن ما يقاتل لأجله هو استعادة سوريا الوطن برمته إلى بر الأمان والإبتعاد عن الحكم الطائفي ، وكان بالتالي يثق أن معظم السوريين سيناصرونه في تحقيق هذا الهدف ، لأن هناك عدوا أكبر يتربص بالوطن هو العدو الإسرائيلي الكاسب الأكبر من عملية حل سلاح المغاوير واحلال ما سمي لاحقا بسرايا الدفاع تحت قيادة رفعت الأسد لحماية القصر الجمهوري في زمن حافظ الأسد وليس لحماية دمشق .
والحقيقة أن ما يحز بالنفس ليس المآل الذي وصلت إليه الأمور خلال وجوده بالأردن ، بل الخلافات التي دبت في صفوف أنصاره لأسباب تافهة ، لم يكن أولها فرار العقيد طلال أبو عسلي إلى مصر والظهور على الإعلام لاتهام سليم حاطوم بما ليس فيه فقط لسبب أن الإهتمام لم يكن منصبّا عليه في الأردن كما كان منصبّا على سليم حاطوم ، ولن يكون آخرها شهادة عبدالله عبد الغفار الأطرش ضده والتي قبض ثمنها كرسيا في برلمان الأسد الصوري طيلة عقود على حساب أحلام عادلة لكل السوريين .. بل إن ما يحز بالنفس أكثر أننا حتى يومنا هذا لازلنا نراوح في مكاننا منذ خمسين عاما ، فنستمع لمن يخوّن من يحاول العمل ، ونتبنى أكاذيبه ، ولا نحارب من يضعون العصي بالدواليب في وجه كل مشروع نافع لوطنيتنا كسوريين ، لا بل ونتحاشى الخوض في تفاصيل عادلة قد تكون هي المفصل في تبيان الحقيقة ، ليبقى ما هو مؤسف أن شعبنا حتى اليوم يستسهل تقبّل أية ديباجة تلقى له عن أي حدث ، فلا يسأل نفسه إن كان ظالما في حكمه ، ولا يكلف نفسه عناء البحث أو التمحيص .. لهذا يكون المرء ضحية الظلم أكثر من مرة ..
الذين هاجموا سليم حاطوم من أبناء جلدته اختبؤوا في حرب حزيران عام 1967 ، لكنه ورغم معرفته بأن نسبة نجاته قد لا تتعدى العشرة بالمائة ، قرر أن يشارك في الحرب ، وحاول في الأردن ، لكن الإخوة في الأردن أبلغوه أنه ضيف فيها ولا يصح للضيف أن يحارب . فقرر العودة إلى سوريا رغم كل التحذيرات من عواقب ذلك ، ولأن الشهيد كان صادقا ووطنيا مخلصا ، كان يظن أن كل رفاقه في القيادة في دمشق سيضعون الخلافات جانبا ، ويتّحدون لقتال العدو ، ولم يكن يتوقع أبدا ، أن أعداء الوطن الحقيقيين ، هم في مقرات القيادة في دمشق .. فعاد حاملا روحه على كفّه ، ومرّ على منزل قائد الثورة السورية الكبرى المغفور له سلطان باشا الأطرش ، ليحذّره الأخير بشدة ، ويقول له أنهم في دمشق لن يتعاملوا معه إلا كمنافس على السلطة ، فيجب أن يعود أدراجه حتى يستقر الحال .. لم يستمع الشهيد ومضى لدمشق ، لكي تتـلـقّـفه فعلا أيدي المؤامرة الخبيثة ، ففي فرع الشرطة العسكرية في القابون كان بانتظاره عبد الكريم الجندي أكثر الصدور الموغلة حقدا على سليم حاطوم لأسباب شخصية ، والذي على يديه الملوثتين تمت تصفـية معظم رفاق الدرب لحساب صلاح جديد تارة ولحساب حافظ الأسد تارة أخرى ، وكان يعلم تماما ما عليه فعله في مواجهة حماسة ووطنية واندفاع بطل بمستوى سليم حاطوم ..
لقد قال البعض أنه وبعد مشادات كلامية ضربه الشهيد سليم حاطوم بكرسي في مكتبه فعاجله هذا بطلقة جبانة من مسدسه ، وقال البعض الآخر أنهم اقتادوه إلى قبو التعذيب وأشرف الجندي مباشرة على أن يشهد سليم حاطوم أشد أنواع التعذيب ضراوة ، لقد نسي عبد الكريم الجندي في أوج نكسة حزيران كل ثارات السوريين على جبهات القتال ، وانبرى ليتفرغ لثأره الكيدي في قبو مظلم في القابون ، طلب الرائد الشهيد أن يتصل بحافظ الأسد أو بمحمد رباح الطويل أثناء نقله إلى سجن المزة ( وهذا ما ينفي الرواية الأولى قطعا) لكن كلاهما رفضا لقاءه ..
في هذا الوقت كان حافظ الأسد يجهز لتصفية سليم حاطوم بضرب عدة عصافير بحجر واحد ، فاستدعى اللواء متعب العبد الله وطلب منه أن يذهب إلى السويداء ويقوم بتشكيل وفد شعبي ليأتي غدا إلى دمشق ليطالب بالعفو عن سليم حاطوم ورفاقه ، وإلا فإنه لن يقوى على مساعدته في ضوء رغبة ( صلاح جديدبتصفية سليم حاطوم شخصيا) ، لكنه وبعد أن غادر اللواء متعب العبدالله مكتبه، اتصل فورا بصلاح جديد وطلب اجتماعا عاجلا للقيادة ، طرح فيه التعجيل بإعدام سليم حاطوم وبدر جمعة قبل أن تتفاقم الأمور، لكن صلاح جديد ( الذي أبلغ حافظ الأسد اللواء متعب العبدالله أنه لا يضمن أن يسارع بالتخلص من سليم حاطوم ) اقترح تأجيل محاكمتهم حتى يعود الرئيس نور الدين الأتاسي من نيويورك حيث كان يحضر جلسة الأمم المتحدة الخاصة بتداعيات حرب حزيران ، وأمام إصرار حافظ الأسد تم طرح الموضوع على التصويت ، وكان التصويت لمصلحة إجراء محاكمة سريعة ، وبالطبع تم استدعاء مصطفى طلاس ( الذي يفضّل تصفية الخصوم باسم الشعب ) ، ليترأس فورا محكمة عسكرية لتحكم بشكل فوري على كلا من الشهيدين سليم حاطوم وبدر جمعة بالإعدام رميا بالرصاص وتم تنفيذ الحكم فورا في سجن المزة العسكري لتنتهي حياة جسد الرائد سليم حاطوم على يد ثلّة من الخونة الذين استباحوا سوريا لعقود فيما بعد .. وأعادوا بناء النظام فيها على اعتبار الأُجراء والجبناء هم من يتحكمون بالبلد ، وذلك بعد أن استقر الحال لحافظ الأسد بعد تخلصه من كل خصومه وحتى مواليه المؤثرين ، إذا أنه لم يكن يرغب إلا بموالين ضعفاء ، فانتحر عبد الكريم الجندي في مكتبه بعد أن تمت محاصرته ، وزج في ظلمات السجون كل من صلاح جديد ونور الدين الأتاسي بعد أن اتخذوا قرارا بفصله هو و عصابته في المؤتمر القومي العاشر الاستثنائي لحزب البعث الذي عقد في دمشق في أوائل تشرين الثاني 1970م، حيث اتخذ أعضاء المؤتمر المذكور جانب الأمين العام المساعد.. وأيدوا بشكل إجماعي قراراً بفصل كل من وزير الدفاع حافظ الأسد، ورئيس أركان الجيش مصطفى طلاس، وقائد العمليات العسكرية عبد الغني إبراهيم، وقائد سلاح الطيران ناجي جميل ، إلا أن حافظ الأسد كان أسرع منهم بأن نفذ حركته الإنقلابية (( التصحيحية )) فزج بأبرز معارضيه في السجون كما أعدم الآلاف بمصادقة محكمة ترأسها مصطفى طلاس وبالتالي مهّد هو وعصابته للتحكم بسوريا منذ ما يقارب النصف قرن وحتى يومنا هذا .
لقد رحل الشهيد سليم حاطوم كما ارتحل معظم شرفاء سوريا ، فقيرا من الدنيا غنيا بسمعته وأعماله ، ويذكر أن وفدا من الصحفيين الأجانب الذين يحققون في تاريخ سوريا ، طلبوا زيارة ( قصر ) سليم حاطوم في مسقط رأسه ، ولما وجدوا أن بيته هو عدة غرف من الحجر البازلتي ذهلوا لحال رجل كان يوما ما من بين عشرة رجال يسيطرون على مقاليد الحكم في سوريا لنصف عقد من الزمن على أقل تقدير .. فيما بنى نظام المؤامرة ثروات تجاوزت مئات المليارات من الدولارات لعائلة الأسد وحدهم ، بينما عائلات الأعوان، لم تتجاوز عشرات المليارات من الدولارات وكلها على حساب قوت الشعب وأمانه وعلى حساب مستقبل سوريا وأرواح أبناءه الشهداء الذين أحبوا أوطانهم بكل صدق وعملوا لأجله بكل تفاني وثبات قبل أن تتم تصفيتهم بيد مخابرات الأسد أو تدابير أعوانه .
31\5\2016
Tags: مميز