ميادة كيالي: هذا البحث وضعني لأول مرة أمام الأسطورة … عندما اكتشفت عن دور المرأة في التاريخ القديم

كلنا شركاء: شاهدون

صدر مؤخرا عن المركز الثقافي العربي في الدار البيضاء ومؤسسة مؤمنون بلا حدود دراسة للأستاذة ميادة كيالي بعنوان المرأة والألوهة المؤنثة في حضارات وادي الرافدين .

الدراسة أُعِدت كرسالة بحثية لنيل شهادة الماجستير من كلية الحضارات والأديان في جامعة فان هولاند .

الكتاب يلقي الضوء على المكانة الاجتماعية والدينية للمرأة في وادي الرافدين في العصور البعيدة حيث كانت المرأة تتربع على عرش المجتمع فهي رمز الخصب وهي الممسؤولة عن استمرار النوع قبل أن تُعرف علاقة الرجل بالانجاب فأُلٍهت النساء وكانت الربة وهذا ما شهد عليه هيرودوت وغيره من المؤرخين القدماء، وهذا ما شهدت عليه ألواح سومر وحضارات ما بين النهرين ، هذه المكانة التي بدأت بالتراجع فيما بعد لتصل المرأة إلى ما وصلت عليه في تاريختا القريب واليوم .

بحث بالرغم من اعتماده على الماضي لكنه يعتبر من أحدث الأبحاث التي تغوص في هذا الموضوع من حيث الأهمية والتوثيق والتحليل .

السيدة ميادة كيالي معدة البحث والتي ناقشت بحثها هذا في آذار 2014 ونالت عليه درجة الماجستير نلتقيها اليوم في حوار نحاول فيه أن نطلع على تجربتها البحثية خاصة وأنها قد تكون المرأة العربية الأولى التي عملت على بحوث الميثولوجيا التاريخية .

١- كُنتِ من النساء العربيات القليلات اللواتي دخلن مجال بحوث الميثولوجيا ، لماذا اخترت هذا المجال بالذات وكيف وجدت نفسك فيه؟

في الحقيقة بدأت القصة في قراري متابعة التحصيل العلمي في مجال العلوم الانسانية، وكوني أحمل شهادة بكالوريوس في الهندسة المدنية، جعل من الصعب أن ألتحق ببرنامج ماجستير في الإمارات العربية حيث أقيم وأعمل من دون أن أدرس بكالوريوس ثم أتابع. ونظراً لمعرفتي الوثيقة بالدكتور خزعل الماجدي وعلمي بأنه يُدّرس في جامعة فان هولاند وهي جامعة تعتمد التدريس “أون لاين”، فقد جعلني ذلك أجمع في برنامج واحد بين البكالوريوس والماجستير وهذا ما كان، فكانت الخطوة الأولى هي كلية الحضارات القديمة والأديان، ومن هنا كانت الانطلاقة.

قدمت خلال دراستي عدة بحوث كان منها بحث عن دور المرأة في الحضارية السومرية، هذا البحث وضعني لأول مرة أمام الأسطورة، وشعرت أنني عثرت على كنز، لما اكتشفته عن دور المرأة في التاريخ القديم، ولما مَنَحَتْهُ إياه الأساطير من دهشة.

ولذلك حين رحتُ أفتّش عن موضوع لبحثي في أطروحة الماجستير كان في ذهني من دون تردد المرأة والإلهة والأساطير، وهكذا كان. أحببت الأساطير وخاصة التي تتناول الخليقة، ومنشأ الإنسان، ولقد أحببت جداً ما قدمته في بحثي من إعادة تأويل للإينوما إيليش (حينما في الأعالي)؛ الأسطورة البابلية المهمة جداً والتي اعتمدت عليها في بحثي، لأنها عمقت البحث ورفدته بقصة الانقلاب الذكوري الذي حصل حقيقة في التاريخ، ولا يزال عندي شغف أن أتابع العمل على الأساطير ودراستها دراسة مقارنة ومعها كل النصوص المؤسسة التي تشكل عصب الأديان على اختلافها.

٢- اختيارك لعنوان دراستك هل كان محض صدفة، أم أنّ هناك ما جعلك تفضلين هذا العنوان عن سواه؟

حين اشتغلت في بحثي التحضيري على دور المرأة في حضارة سومر، شهدت عظمة هذا الدور وأبهرني أن أجد كيف كانت المرأة تهيمن على المؤسسة الدينية، وكيف كان ذلك مرتبطاً بعبادة الإلهة الأنثى، وأذكر أنني قلت لأستاذي المشرف خزعل الماجدي مرة :” أنا أشم رائحة انقلاب حقيقي على المرأة في التاريخ، فهذا المجد والتميُّز كيف تحول كله لتصبح المرأة مُستَعْبَدة، وتابعة وبلا حقوق”، ضحك حينها وقال لي “كنتُ أنتظر لأرى هل ستكتشفين ذلك؟.. لقد وضعت يدك على عنوان أطروحتك للماجستير” ، وفعلاً مجرد أن بدأت العمل على البحث كان ذلك هو العنوان، ولا أخفيك حين كنت أناقش هذا العنوان مع العديد من الأصحاب من المفكرين والمثقفين، العديد منهم نصحوني أن أختار عنواناً آخر، والبعض القليل أيّدني وتحمسوا معي لهذا الخيار.

٣- نعيش اليوم حالة فصامية بين الموروث الديني والموروث الاجتماعي وتتخبط المرأة بينهما مغبونة من الناحيتين، فما رأيك بما وصل اليه وضع المرأة اليوم في بلادنا؟

لقد وصفتِ الوضع بشكل دقيق. إنها حالة فصامية حقاً. نحن نعيش اليوم حالة من التناقض الكبير، والسبب هو سيطرة الموروث الديني بالدرجة الأولى علينا، بغض النظر عن مصدره، بحيث أنك تجدين المتعلم والمثقف يتحدثان اليوم عن المرأة وبأنها خُلقت لبيتها ولزوجها، وبأن الرجل قَوّام عليها، وهي خرجت من ضلعه “الأعوج”، وهي أصل الخطيئة والغواية، وأستاذة الشيطان. أجل تجدين التناقض بين ما نقتنع أنه يناسب ويوائم احتياجاتنا الإنسانية، وبين الشعور بالذنب العظيم، وبالخروج من دائرة الرحمة والمغفرة. لذلك المرأة اليوم إن هي نجحت في كسر الحاجز النفسي الذي تربت عليه، وفِي نفس الوقت استطاعت أن تكمل علمها، وأن تتمتع باستقلاليتها المادية، ستصطدم بحاجز المجتمعات التي لا تزال حتى الآن كالنعامة تطمر رأسها بالتراب، وتؤمن بأنها بأمان وجسدها كله في العراء. وكسر هذين الحاجزين يحتاج إلى المرأة العنيدة والقوية التي لديها الثقة الكاملة بأنها صنعت التاريخ والحضارة جنباً إلى جنب منذ أقدم التاريخ، وبأنها الند الحقيقي والشريك الحقيقي للرجل، وليست تقل عنه مرتبة وأهمية وليس هناك من حتمية بيولوجية تفرض بالتالي أدواراً عليها، وكأنها خُلِقَتْ لها.

٣- عنوانك قد يثير سخط المتدينين وسخط المؤمنين معاً، فهل واجهت شيئاً من هذا القبيل؟

في الحقيقة تتمة عنوان الأطروحة أنقذت الموقف، فكل ذلك حصل في حضارات وادي الرافدين القديمة، جوبه العنوان في أوساط معينة بالتهتر “انقلاب على الذكر يا لهوي”… هكذا علق أحدهم في بث مباشر من معرض الكتاب ذكرت فيه أنّ الكتاب يسلط الضوء على انقلاب ذكوري حصل على المرأة في التاريخ، لكن هذا كما أشرت لأشخاص سطحيين لا يعنيهم ما حصل في الحضارات القديمة، بقدر ما يعنيهم تاريخ معين، والمهم أن لا تطرقي لهم على أبواب حساسة فيه، تطال مفاهيمهم الراسخة عن خلق الإنسان وخلق المرأة والقَوامة وغيرها الكثير.

٤-امتد بحثك من نهايات العصر النحاسي كما فهمت وإلى انزياح دور المرأة كلياً عبر امتداد حضاري طويل حتى وصلت إلى حالة الانزواء في التاريخ الأحدث حتى همشت تماماً في التاريخ القريب، فهل برأيك يمكن لصيرورة تطورات المجتمع أن تعيد للمرأة جزءاً من مكانتها واستقلاليتها؛ بالطبع أقصد في مجتمعاتنا العربية بشكل خاص؟

بكل تأكيد، لا شك أن إعادة النظر والبحث في التاريخ وإعادة تأويله، مع تقدم المعارف والعلوم وما حققته علوم الأنثروبولوجيا من تطور كبير غيَّر وقلب مفاهيم كبيرة بُنيت عليها أعتى النظريات، كل ذلك سيقود إلى استعادة المرأة لثقتها بقدرتها، وبالتالي ستنزع عنها الصورة التقليدية التي ساهم المجتمع البطريركي الأبوي بصياغتها ورَسْمها، بحيث أصبحت مع الوقت وكأنها قانون الطبيعة، وصدّقته المرأة وأصبحت تدافع عنه. المرأة يجب أن تعرف أنّ في التاريخ ملكة حكمت وأفلح قومها، وبنوا لها مسّلة تمجدها، وأنها أول شاعرة في التاريخ، وأنها من اكتشف الزراعة ودجّن الحيوان، وبدأ أولى الصناعات اليدوية، وبأنها كانت المسؤولة على حسابات القصور، بل حتى رسومات الكهوف أثبتت الأبحاث أنّ 75%  من بصمات الأيدي التي رسمتها هي للنساء، وبأنّ الإلهة الأنثى بقيت في الوجدان الإنساني لقرون طويلة رغم تحول الألوهة للتذكير، وهذا ما يفسر التشابه الكبير بين نجوى الشاعرة الأكدية أنخيدوانا والصلوات المرمية، في صورة تعكس حضور قداسة الألوهة في شخص مريم العذراء.

٥- عندما نجد المرأة في الأساطير القديمة إلهة وربّة وواهبة الحياة، ونراها كاهنة وكله دليل على احترام مكانتها هل نستطيع أن نحمل الأديان الإبراهيمية ما وقع على المرأة من حيف؟

أنا لن أذهب إلى ما ذهبت إليه مارلين ستون في كتابها “عندما كان الرب أنثى” لأنها وجهت أصابع الاتهام حقيقة للأديان الإبراهيمية بأنها من حطم تماثيل الإلهة، وأزاحها.

بالنسبة لي، أتفق مع جيمس فريزر الذي يشير إلى ذلك التوافق ما بين جنس الإله ومكانة الجنس البشري المقابلة له على الأرض، أنا أعتبر أنّ النظام الأبوي البطريركي ساهم في تفسير وتأويل النصوص الدينية بما يلائم هواه، وأؤمن بما ذهب إليه المفكر عبد الجواد ياسين في كتابه “الدين والتدين ” بأنّ الدين هو ذاك المطلق من قيم وأخلاق وخير، أما ما عداه فهو تديّن، والتديّن يعني طقوساً وتشريعاً وأوامر ونواهي، هذه كلها تخضع لقوانين الاجتماع وبالتالي هي نتاج عن مفاهيم سادت ولا تزال في بنائية أبوية، وفِي هذا الجزء تقع مشكلة المرأة المعاصرة، ومشكلة حقوقها ومكانتها.

٦- إن كنت تؤيدين أنّ الأديان السماوية الثلاث هي من ساهم بالحد من مكانة المرأة، حبذا لو تشرحين قليلاً وجهة نظرك في هذا الموضوع؟

كما أشرت في الجواب السابق، مفهومنا للدين والخلط ما بينه وبين التديّن، هو الذي ساهم في الحد من مكانة المرأة وساهم في تكريس تبعيتها للرجل ودونيتها وحرمانها الكثير من حقوقها. المشكلة تكمن في التأويلات البشرية للنصوص الدينية، وهي التأويلات التي تنزع إلى الذكورة، وخدمة شهوة التسلط والتحكم بالمرأة وتحويلها إلى تابع وليس إلى شريك.

إن ما حصل عبر التاريخ من تراجع في مكانة المرأة وتهميشها، انعكس في الأساطير القديمة في مكانة الإلهة الأم العظمى التي تَنَحَّت من كونها الأولى والأصل لتفسح المجال للإلهة الابنة إنانا التي تصبح واحدة من آلهة مجمع الآلهة وتختص بالحب والغواية، ثم لتتحول فكرة الخلق من فرج المرأة الى فم الرجل ومن الخلق من الرحم الى الخلق بالكلمة، وليصبح الرجل على الأرض هو أصل خروج المرأة من ضلعه ، ومن ثم تم شيطنتها وشيطنة أفعالها وإعلانها المسؤولة الأولى والأخيرة عن الطرد من الجنة. كل ذلك خلق أرضية أثَّرت على كل ما جاء بعدها، حتى في أوروبا عانت المرأة الكثير حتى تخلصت من صورة رسمها العهد القديم والإرث اليوناني، لكن التحوّل والانقلاب لم يكن بسبب الدين بل كان انعكاساً لما حصل من أوضاع اقتصادية رافقت الملكية الفردية وامتلاك وسائل الانتاج وتكريس الطبقية وإخضاع النساء وتسليع الجنس، هذا كله انعكس على تفاعل المُقدَّس مع الإجتماع، وانعكس في تفسير وتأويل النصوص مما نتج عنه فقه تحولت معه المرأة إلى دَنَس وإلى ناقصة عقل ودين وإلى ظل تابع للرجل، ولا يكتمل دخولها الجنة إلا بتوقيعه ورضاه عنها، وبأنها خُلقت لتكون مربية لأبنائه وخادمة مطيعة له، فتكرست مفاهيم الشرف والعرض، بحيث أنّ المرأة هي شرف الرجل وعرضه وخطأ منها يعني المساس بشرف وعرض القبيلة كلها، وبالتالي يتآزر الجميع ليقتص من المرأة، وهذا شكَّل مع الزمن إرثاً كبيراً غالباً ما تم ربطه بالدِّين، حيث زاد تكبيل المرأة وعزَّزَ عندها الخوف، فضلاً عنْ أنها صَدَّقَتْ، مع الأسف، واقتنعت بصورتها التي رُسِمت لها!

٧- في بحثك واضح وجلي حجم الجهد المبذول في الحصول على المعلومات وتحليلها ووضعها في سياقها، فما هو منهج البحث الذي اتبعته، وكيف كانت رحلة البحث؟ وكيف؟

كان منهجي المتبع هو المنهج الوصفي التحليلي، اعتمدت فيه جمع المادة وتحليلها وتسليط الضوء عليها، كانت البداية متعثرة في 2013 وذلك لأن الإحساس العاطفي عندي كان عالياً والنفس النسوي أيضاً، لكن كانت متابعة الأستاذ المشرف وتقليمه لكل خروج عن الموضوعية في التحليل، له الأثر الكبير في إكسابي خبرة البحث، وكانت الإنطلاقة الحقيقة في الربع الأخير من 2013 لتكتمل مع الربع الاول من ال 2014 ، كانت رحلة البحث غنية جداً بالنسبة لي لأهمية المراجع التي قرأتها، وهي بالتأكيد مؤلفات الدكتور خزعل الماجدي خاصة كتاب “إنكي” بحزأيه، وأيضاً كتب فراس السواح، وخاصة “لغز عشتار” و”مغامرة العقل الأولى” و”دين الإنسان“، والعديد من المراجع وواحد من أهم المراجع الذي توافق أن اقتنيته سنة صدور ترجمته إلى العربية من معرض الكتاب 2013 لغيردا ليرنر ” نشأة النظام الأبوي” ، وللإشارة فهذه الباحثة الأميركية هي التي أسست حقل تاريخ النساء في الجامعات، واشتغلت ما يزيد عن العشر سنوات في حضارات وادي الرافدين، وكتابها مرجع مهم جداً.

الآن أنا أتابع للحصول على شهادة الدكتوراة في الحضارات القديمة، وموضوعة بحثي ستكون في المجال نفسه، وأتمنى أن أكملها وأناقشها مع نهاية عام 2017.

الشيء الذي أحب أن أضيفه أنّ هذه الأطروحة كانت إنجازاً بالنسبة لي مع تحملي لمسؤوليات عديدة في آن واحد، وكونه مضى وقت طويل ما بين حصولي على شهادة البكالوريوس في الهندسة، وشهادة الماجستير في الحضارات، كان نجاحي في هذا الاختبار في الحياة إثباتاً على أنّ المرأة قادرة على أن تربي وتعمل وتدرس وتنجح، من خلال الإيمان بقدرتها والتسلح بالإرادة والعزيمة.





Tags: محرر