Archived: حكاية الجدران ودفاتر العشاق في سراقب… محطات وذكريات ثورية

رزق العبي: كلنا شركاء

يقال أنّ الجدران هي دفاتر المجانين، إلا أنها في مدينة “سراقب” وعلى مدى خمسة أعوام كانت دفاتر للعشاق، حيث اتخذ أهالي المدينة من الجدران مساحات حرّة لتدوين الشرارة الثورية الأولى، وأحياناً جعلوا منها رسائل بين عاشقين، أو مجرد “فشّة خلق”.

ومضت الأيام إلى أن أصبحت الجدران في سراقب، مشروعاً تتناقله وسائل الإعلام، وتتحدث عنه الصحافة.

مرّت السنوات، وانتهى التدوين، وتبعثر الكادر الذي بدأ بالمشروع كلٌّ في بلد، وبقيت تلك الجدران، مجرد أطلالٍ فيها عباراتٍ ممحيّة، أو مكتوب فوقها، وبعضها بقيت على ما هي عليه.

“كلنا شركاء” التقت برئيس تحرير جريدة زيتون، رائد رزوق، وهو أحد الأشخاص ممن كانوا أصاحب الفكرة الأولى للجدران، وقلّبنا معه دفاتر العشق السراقبيّ.

يقول “رزوق”: “لا أذكر تحديداً في أي ليل بالذات بدأت تلك الكتابات، لكنها جاءت في وقت مبكر من شهور الثورة الاولى، وبكل تأكيد كانت عفوية وبديهية، لم يكن مخطط لها أن تستمر أكثر من ليلة أو أكثر من عبارة حتى، وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن الكتابات على الجدران لم تكن شيئا جديداً على ثقافة بلداتنا بل هي أخطر ما كان يمكن أن يُمرر من المحظور السياسي والاجتماعي، فسنفهم أن لا شيء جديد جاءت به حيطان سراقب إلا ربما من حيث الشكل والكلمات”.

يتحدث “رزوق” مواقف قليلة في دقائقها، لكنها ممتلئة بالخوف تارةً، والدافع لها تارةً أخرى، حيث كانوا مجموعة صغيرة لا تتجاوز خمسة أشخاص، يتخذون في الهزيع الأخير من الليل، وقتاً لتدوين فكرة، أو عبارة على إحدى جدران المدينة.

عن هذه البدايات يقول: “بكل بساطة بدأ الأمر بعلبة بخاخ وقطعة فحم وكانت جدران المدينة كلها أمامنا، أما ما دفع الشباب إلى الكتابة فهو الوجع والخوف، الوجع على الخسارات الكبيرة التي يمر بها الناس، إن كان اعتقالاً أو قتلاً أو دمار.. والخوف من مستقبل لا أحد يستطيع أن يتنبأ بمآلاته”.

وهنا لا يُخفي “رزوق” بعض العوائق الصغيرة التي مرّوا بها، لكنها كانت تحزّ في نفوسهم كثيراً، فكثيراً ما كانوا يجدون بعض الكتابات قد شُوّهت، أو مُسحت، أو كُتب تحتها كلمة أو كلمتين، وهذه العبثيات كانت تتحدث عن وجود إمّا من يعارض فكرتنا، أو ثمّة أشخاص هكذا بطبيعتهم يعبثون بالجمال ليشوّهوه.

ولكن الأمر بعد أشهر تطور إلى أن لاقى رغبة شبه عامة من أهالي المدينة، فأصبحت الكتابة مسلسل، أو شيء يقترب من الوظيفة، التي امتهنها أصحاب الفكرة، وصارت أمانة، يقول “رزوق”: “تكررت عملية الكتابة فيما بعد لأن موافقةً ضمنية أبداها الأهالي اتجاه ما نكتب، ولأن الدوافع من المخاوف والأوجاع قد تضاعفت كثيراً، فمن شهيدٍ واحد إلى مئات الشهداء ومن معتقلٍ إلى آخر، ومن فصيل إلى فصائل”.

اختار أهالي المدينة من نَفَس الشاعر الفلسطيني “محمود درويش” خطّاً مستقيماً للتدوين، فكثيراً ما كان يقرأ الزائر لسراقب، أهلها، من جدرانهم، وكثيراً ما كانت تتحدث الجدران عن الأمل تارة، والحزن تارة، بحسب توقيت المرحلة الثورية آنذاك.

وفجأة تتحول فوضى الجدران إلى مشروع، وخبايا القائمين على الفكرة، ليلاً واجتماعهم حول جدارٍ واحد، إلى أهازيج تتحدث عنها صحف العالم وتلفزيوناته، حتى ارتبط اسم المدينة بجدرانها، وأصبحت (دفاتر العشاق في سراقب).

فيلم متوسط الطول يعرض عالمياً

اختار ابن المدينة الشاب “إياد جرود” من الجدران لقطاتٍ ليصنع فيماً يحمل عنوان “دفاتر العشاق” واختارت إدارة مهرجان “روتردام” السينمائي في هولندا فيلم “دفاتر العشاق– حيطان سراقب” للمشاركة في دورته لعام 2015 ضمن قائمة الأفلام الوثائقية متوسطة الطول، ليكون بذلك الفيلم السوري الوحيد الذي يعرض في الدورة التي عُقدت بين 21 كانون الثاني/ يناير و1 شباط/فبراير 2015، حيث تمت برمجة الفيلم الذي عُرض أمام الجمهور للمرة الأولى لثلاثة عروض في صالات “روتردام”، وسبقها عرض خاص للصحفيين وشركات التوزيع والمنتجين. 

ودفاتر العشاق فيلم وثائقي، من تصوير وإخراج “إياد الجرود” وإشراف وإنتاج المخرجة “عليا خاشوق”، وتعاون فني للكاتب والمخرج “علي سفر” حيث أنتج سنة 2014، وكان يسلّط الضوء على الطابع السلمي للثورة.

ولكن ما أن تتجه أنظار الناس إلى شيء وتُسلَّط عليه الأضواء يصبح في طريقه للروتيني، وقد يؤدي إلى الزوال، وهنا يقول “رزوق”: “مع زيادة التعقيد في الثورة ازداد التعقيد على الجدران وحتى في كل شيء، وما كان جنون أفراد تحوّل إلى مشروع واعٍ وواضح، وانتقل من حالته العفوية البسيطة إلى ما يشبه العمل المخطط”.

“ولا أنكر أن الجدران في هذا الانتقال قد خسرت الكثير من جماليتها ونبلها، بل واقتربت الى حدّ المراءات والتبجّح والاستعراض، رغم أن أي تكرار في العفوية محكوم بالانتقال الى التخطيط وحال الحيطان هنا كحال كل الحركات الابداعية التي ظهرت في بدايات الثورة”، يقول “رزوق” ثم يبدأ بتقليب صور للجدران احتفظ فيها في مكتبته.

ثم يضيف: “كان من المفترض أن تتطور تلك الحركات مع تطور الوضع السوري لكنها عجزتْ عن ذلك، ولم تستطع أن تمنع حالة الملل التي تسللت إلى الناس منها، بمعنى أن الناس ملّت من الجدران”.

جدران للأطفال أيضاً

وفي مرحلة من المراحل تطوّرت الجدران، لكنها اتجهت لتكتب وترسم للأطفال، فراحت تخطّ رسومات لهم، ليلتقطوا صوراً تذكارية بالقرب من جدران مدينتهم، وعندما يكبروا يأتون بها ليعلم أبنائهم ماذا حصل ذات يوم، في سوريا، حصلت حكاية الجدران التي تحكي عن حاكم يقتل شعبه، وعن أملٍ بالحياة بحرية مهما بغى الباغون.

لا مكان للدعم المادي في عملنا

لاحظنا في الفترة الأخيرة أن العمل توقف الآن..

– إن لم يكن كذلك، فيجب أن يتوقف، لأنها أصبحت مملّة فعلاً، كنتُ أنا شخصياً أرغب في أن يأتي غيرنا بفكرة جديدة وينطلقوا منها، لا علاقة لها بالجدران، وهذا ما أحلم به حتى اليوم، أن يأتي منْ يصنع الجديد. ولكي نكون واقعيين في قصورها، أي الجدران، وعدم تطورها ما ظهر من معوقات ولا سيما التوجه الديني متمثلاً ببعض الفصائل، كما كان لطوفان الدم الذي انتجته طائرات النظام أثراً كبيراً على استمراريتها.

ينوه هنا “رزوق”: “لم تحتاج الجدران إلى دعم مادي، ولم تتلقّى أموالاً على ما تمّت كتابته بل لم تقبل بأن تجير لأي جهة سياسية أو غيرها، وكانت وما تزال تمثل ضمير الثورة والبلد، ولو أنها جُيّرت لصالح جهة معينة لانتهت من وقتها”.

اقرأ:

قبل وبعد التحرير… إدلب بلا وسائل نقل عامة





Tags: مميز