د. يحيى العريضي: وهل يدل سنونو واحد على قدوم الربيع؟

د. يحيى العريضي: كلنا شركاء

تعددت الاجتهادات في تفسير وتحليل رسائل وأهداف صواريخ الرئيس الأمريكي الجديد: أهي ردة فعل عاطفية على منظر أطفال خنقهم نظام الأسد بغاز السارين المحرم، أم صفعة في وجه بوتين المستبد بسوريا، أم ركلة نهائية لرخاوة أوباما، ام إغلاق لباب روسي فضائحي يشكك في فوز ترامب، أم مقدمة كتاب عودة أمريكا عظيمة، أم تعزيز لحلفاء يشعرون باليتم بغياب العم سام، أم كل تلك الأشياء مجتمعة؟!

رغم الحملة الدعائية الإيرانية الروسية الأسدية  التي واكبت وتبعت الحركة الأمريكية، ورغم ضياعها في متاهات التلفيق والتناقض حول استخدام السلاح الكيماوي ؛ إلا أن نقطة ارتكاز الحدث ومحرقه لم يحيدا عن خلاصة مفادها أن السياسة الأمريكية تجاه القضية السورية- رغم استمرارها في طور البلورة والاستكمال- تشهد تغيراً دراماتيكياً.

صحيح ان أمريكا دولة مؤسسات؛ ولا بد أن السيد ترامب قد وجد على مكتبه ملفات ستة أعوام من المأساة السورية ببراميلها وصواريخها وتطهيرها العرقي ومقابر أحيائها ودمار نصف بلد ومليون ضحية وملايين مبعثرين في أربع أصقاع الأرض، ما يبعد صفة النزوة أو ردة الفعل العاطفية على منظر أطفال خنقهم نظام الأسد بغاز السيرين ما يستلزم العقوبة الطارئة بصواريخ توما هوك على مصدر الجريمة.

مهما أُطلق من توصيفات على فعلة ترامب إلا أن جملة من الأهداف تم انجازها وبشكل دراماتيكي لتكون نقطة علاّم تقاس السياسات الأمريكية والدولية بمعايير ما قبلها وما بعدها. رغم الحالة المؤسساتية الأمريكية وضرورات النهج المنهجي المتناسق في السياسات، إلا أننا نشهد طلاقاً بائناً مع السياسات الأوبامية الرخوة الخبيثة في النأي الظاهري للنفس عن مأساة عصر تركت “وصمة عار” في التاريخ الأمريكي- كما أشار ساسة وخبراء أمريكيون أنفسهم. ترامب، ببنيته النفسية وتركيبته الشخصية وخطه السياسي اللاسياسي ووعوده بإعادة عظمة أمريكا، لا بد ان يتصرف هكذا؛ وإلا لن يكون ترامب، ولن تكون “الترامبية” ماركة تجارية مسجلة على الحلبة العالمية.

حقيقة أخرى ولدتها فعلة ترامب تتمثل بإعادة الحياة إلى المؤسسة العسكرية الأمريكية “البنتاغون”، الذي استقال مديره الأسبق /شاك هاغل/ إثر تحييده من قبل مديرة مكتب الأمن القومي “سوزان رايس” ومعلمها أوباما من الفصيلة ذاتها. فأمريكا بنت سمعتها على “البنتاغون” /وزارة الدفاع/؛ إنه المكان الذي يجعل امريكا امريكا. ولا يمكن تنفيذ شعار “عودة عظمة امريكا” إلا بإعادة البنتاغون إلى واجهة ووجه العالم. صواريخ ترامب التسعة وخمسين شكّلت مقدمة العودة. ترامب رجل أعمال ؛ التجارة عالمه؛ والسلاح يشكل البضاعة رقم واحد في عالمنا؛ ومثل ترامب لن يسمح لصعلوك تجاري كبوتين أن يتباهى بعرض أسلحته خلال تجريبها على الأجساد السورية ليبيع بضاعة في سوق عالمية اختصت بها أمريكا. “صواريخ “التوماهوك” خلال رحلتها في أجواء “سوريا الأسد”المحمية بوتينياً، كادت تلامس بضاعة بوتين من الأس 300 و400.

حلفاء أمريكا من الاوروبيين والعربان شعروا باليتم في عهد سلف ترامب. كان “المتهور” يعرف أنه يتصرف بمنتهى الحكمة عندما قال لهم بفعلته: “نحن هنا”. حتى حلف النتاتو، الذي توقع الاهمال، بان عليه الانتعاش؛ اكتشف أن أجهزته الصوتية لا تزال تعمل.

أمريكا بفعلتها الأخيرة تعود وتقول إن هناك “قانون ونظام” في هذا العالم؛ وانا ضابطه؛ فلا منظومة الأسد ولا غيرها يمكنها ان تعبث بذلك؛ ومن هنا أُخذ فعل النظام الإجرامي /استخدام السلاح المحرم/ سبباً غير مباشر للتأديب- رغم أنه لم يكن الأول من نوعه، إلا ان الطقس تغيّر والعالم تغيّر: هناك كاوبوي جديد يرأس مخفر العالم.

ولكن؛ كما أن غيمة واحدة لا تدل على قدوم الشتاء، ولا طير سنونو واحد يبشر بحلول الربيع؛ فإن فعلاً تأديبياً واحداً لا يشي بتغيّر حقيقي في الاستراتيجيا أو السياسة، ولا هو يرسم مستقبلاً أو حتى حلاً بسيطاً لمأساة تكاد تصل سن البلوغ بمرارتها، وما من فعل شبه عابر يمكن أن يعيد القانون والنظام لمكان يستباح ويؤخَذ رهينة من قبل نظام مجرم ودولة مارقة عابثة ومتطلع طموح إلى إعادة أمجاد مفقودة.

لا بد من بلورة سياسة جادة تفتح الأبواب على حل لنكبة شعب ما عانت البشرية كما عانى. لا بد من حل شامل لا يقتصر على مشهد درامي يستفز البعض وينتعش له حفنة آخرون. لا بد من انتزاع السرطان الأسدي الذي يكاد ياتي على الجسد السوري. هذا بشكل آلي يشكل كما قال وزير الدفاع الأمريكي /ماتيس/: “إن سقوط الأسد يشكل أكبر انتكاسة استراتيجية لإيران”

” for Iran, the fall of Assad will be the greatest strategic setback in 25 years”؛

 الأمر الذي تجعله إدارة ترامب أولوية، إضافة لحرب داعش. وهذا أهم ما تبلور من ملامح السياسة الخارجية لهذه الإدارة الأمريكية الجديدة. أما بالنسبة للسيد بوتين، فالرجل لا بد جاهز للمصافقة، وربما شرطه البسيط بعض من حلحلة لملفاته في أوكرانيا والقرم وبعض التوابل الإقتصادية التي تمكنه من الفوز برآسة روسية جديدة العام القادم.

أهل سوريا لا يناسبهم مشاهد درامية إضافية، ولا ردات فعل عاطفية ولا بلدهم ساحة تصفية حسابات؛ وما هم “مكسر عصا” لحمقى ومجرمين ودكتاتوريين. أهل سورية الذين تعبوا ويستحقوا أفضل ما في الحياة، بالانتظار؛ فهل ينتهي الموت، ومن يعيش عليه؛ ليعودوا إلى الحياة؟!





Tags: سلايد