on
سميرة المسالمة: العودة إلى دمشق.. من جمر النار إلى الجحيم
سميرة المسالمة: الحياة
ترتفع في بيروت هذه الأيام أصوات المطالبين بعودة السوريين إلى ديارهم، فنسمع وقع صيحاتهم المدوية على أسماع مواطنيهم، ويتردد صداها في خيام و «منازل» اللاجئين، الذين يلملمون حاجياتهم ويضعونها في أكياس مهترئة بفعل الانتظار، يمسحون المكان بعيونهم الغائرة في وجوههم.
هنا تحت «سقف» لا يقي من برد أو مطر، ولا يعين على رد لهيب الشمس، كانت حياتنا، نحن «السوريين» (اللاجئين)، هاربين من الموت على يد النظام، حتى أصبحت أقدارنا المهزومة تواجهنا بموت آخر، وأن ما من مهرب. عودوا إلى موتكم الأول تحت حكم نظام الأسد، قنابله وبراميله، طيرانه وصواريخه، فهي ربما لا تؤدي إلى مصير مختلف عندما يكون الموت هو الخاتمة، ولو تحت التعذيب.
هكذا، أمام حال العجز والبؤس والإنكار، قابلت مجموعة من الناشطين السوريين حكم الموت على سوريين تحت التعذيب بـ «حرب الأمعاء الخاوية»، بهاشتاغ: (# صيدنايا- لبنان)، في إشارة منهم إلى ما يجمع مصائر المعتقلين السوريين، سواء في معتقلات نظام الأسد أو في بلدٍ طالما كانت تؤرق حريته مضاجع حكام العرب، فيهرب إليه كل باحث عن مساحة حرية لينشر فيه ما عذب من كلام الحق والحب والمواطنة الممنوعة عنه في «بلاد العرب أوطاني».
طبيعي أن موت بعض السوريين (لا يتجاوز عددهم أصابع اليدين) في معتقل لبناني لا يقارَن بعشرات الآلاف ممن قضوا في سجون النظام، إذ يقول التقرير الأخير لـ «المرصد السوري لحقوق الانسان» إن ٤٥ ألف سوري قتلوا تحت التعذيب واحتجاز الحرية والإهمال، لكنّ الحدث اللبناني يأخذ بعداً آخر، حيث يفترض أن مؤسسة الجيش في لبنان ليست بيد حكومة ديكتاتورية، إلا إذا كان «حزب الله» الذي يقتل السوريين في سورية هو الذي يتحكم بمصائرهم في لبنان.
يمارس «حزب الله» إحدى أهم الاستراتيجيات المسلحة الايرانية في سورية (ولبنان)، وهي سياسة التهجير والتغيير الديموغرافي وفق خريطة مرسومة منذ الأسبوع الأول لاندلاع الثورة في سورية (آذار/ مارس ٢٠١١) وحتى ما بعد الاتفاق في جنوب سورية الذي تم أخيراً بين روسيا والولايات المتحدة لإنشاء ما سمي منطقة آمنة خالية من الوجود الايراني الذي يهدد امن السوريين وجوارهم، الأردن واسرائيل. ويبدو أن هذا الأمر نشّط الحراك الاجرامي للحزب بحق السوريين خارج الحدود السورية أيضاً، في الداخل اللبناني، وفي مخيمات اللاجئين تحديداً، ما حوَّلها محطَّ أنظار المجتمع الدولي من جهة، ومحلَّ صب جام غضب بعض اللبنانيين، من خلال آلاتهم الاعلامية وشائعاتهم التي أججت الخلاف وحوّلته، اضافة إلى طائفيته، خلافاً مناطقياً وطبقياً، وضاعفت توتر اللبنانيين بسبب ظرفهم الاقتصادي والمجتمعي والسياسي المتأزم، قبل ثورة السوريين ولا يزال.
وضمن خطة تبييض واقع النظام وميليشيا «حزب الله» في مناطق سيطرتهما المزعومة في القلمون، ولإقناع المجتمع الدولي بقدرتهما على اعادة الحياة الطبيعية إلى تلك المناطق المسترجعة من المعارضة، كان لا بد من فبركة «مشهد العودة» إلى الوطن والترويج له، والذي يعني بمضمونه العودة إلى الانضواء تحت حكم النظام، والتسليم بنجاحه المزيف في فرض حالة الأمن وإعادة المهجرين الذين ساهم «حزب الله» نفسه في تشريدهم من ديارهم ومدنهم واستولى على ممتلكاتهم وزرع بينهم غرباءه، لإحداث الشرخ المجتمعي والتغيير الديموغرافي. كانت عودة الأسر المغلوبة على أمرها من لبنان إلى القلمون عودةَ الهارب من جمر النار إلى جحيمها، بينما كانت مشاهد العائدين عبر كاميرات «حزب الله» تصور انتصار سلامهم المدمّى، متناسية أنهم يعودون إلى حيث قُتل أولادهم، وهم ينتظرون من المآسي ما يساوي فاجعتهم بمدنهم المدمرة، ومجتمعهم الذي لُوِّن بما ليس منهم.
في المقابل، يمنح «حزب الله» أمثاله من المتطرفين في الجانب الآخر، ممن سُمُّوا «متطرفي السنّة»، من «داعش» و «النصرة»، الفرصة ليكونوا عاملَ جذب آخر لعودة اللاجئين السوريين، حيث تخشى تلك الأسر على أولادها من تهمة الارهاب، بسبب نشاط تدعو إليه هذه المجموعات المصنفة ارهابية، وهي بذلك تخدم تماماً هدف النظام و «حزب الله» في خلط الأوراق، وتأكيد أن الحرب الدائرة هي فقط بين ارهابيين وحكومة شرعية، لتنجح في خطتها بإبعاد صفة الصراع السياسي عما يحدث في سورية ولبنان معاً.
يعود بعض العائلات المشردة من لبنان إلى ريف دمشق وفق الخطة التي وضعتها إيران وينفذها «حزب الله» من دون أي ضمانات سلامة، ومن دون أن تجد ما ينتزع خوفها على حياة أولادها المطلوبين للنظام، إن لم يكن بـ «جريمة» التظاهر ضده، فبجريمة الهرب من الخدمة الالزامية، التي ربما تستوجب استعداد المجند وأهله للتحول من مدافع عن الوطن وحدوده إلى قاتل لأبناء هذا الوطن، الذي فُتحت حدوده لكل من هب ودب من قوات عسكرية وأفراد بأجندات ارهابية عبروها ليقولوا إن الصراع في سورية هو صراع مع قوى ارهابية، مبتعدين بذلك من أي حلول سياسية تقربنا من اليوم الأول للثورة، التي انطلقت من اجل الحرية والكرامة وحق المواطنة، فغابت تلك المطالب وحضرت الفوضى والغوغائية، ووحدها حرية القتل هي المنتصرة حتى اليوم، وكذلك حضرت أجندات الفصائل المتقاتلة في ما بينها لتكون عامل فشل اضافي لثورة النصف مليون شهيد، ومنهم عشرات الآلاف من الأطفال والنساء بحسب المرصد، وأكثر من مليوني مصاب ومعوق.
يعود بعض العائلات إلى سورية، إلى حيث تجد مبرراً لتموت هناك في ظل نظام القهر والحصار والقهر والتجويع في زمن الحرب، بينما لا سبب يبقيها في لبنان طالما يد الموت تطاولها فيه، وبحجج واهية، ومعارضة تتوهم أنها تفاوض، وتنسى أن من تفاوض باسمهم يتجرعون مرارة الذل والحصار والتجويع.
قالت لي «عائدة»، وهي سيدة سورية تهم بالعودة إلى دمشق، إنها اشترت كل ما سوف تحتاج إليه هناك لدى عودتها إلى بلد النصف مليون ضحية، وضمن ذلك كفن أبيض، ربما استعداداً لما قد يكون مصيراً أسود، إلا أنها أردفت: لكنه أقل من سواد أن تموت لاجئاً، بذات اليد والسلاح اللذين هجّراك (حزب الله) وقتلا أولادك، ودمرا مدنك واحتلت أعلامهما الصفراء ساحات دمشق وطرق سورية «المفيدة».