اياد شهاب: تأملات في الطغيان الشرقي.. 3- اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس

اياد شهاب: كلنا شركاء

نحتاج الى فتوى بخصوص موضوع تحديد النسل بالسرعة الممكنة، ‘الريّس’ يريدها صباحاً على مكتبه.

تنتهي المكالمة، وترتعش يد الشيخ وهو يضع سماعة الهاتف، فالمتّصل هو مكتب الرئيس، والصبح ليس بعيداً.

يجتمع شيوخ الفتوى سريعا، وتبدأ النقاشات والمداولات والأقوال والترجيحات، ثم يُجمع العلماء على ضرورة الاتصال بمكتب ‘الريّس’، ويتصل الشيخ المسكين، فيجيبه نفس الصوت:

هل الفتوى جاهزة؟.

يجيب الشيخ متلعثماً:

كل شيء سيكون تمام يا ‘افندم’، ولكن لدينا سؤال لو سمحت… انتم ‘عايزين’ الفتوى لإجازة تحديد النسل، ام تحريمه؟!!.

تشرح القصة -التي حدثت غير بعيد عنا في الزمان والمكان- مآل المؤسسة الدينية، بعد ان سيطر عليها الطاغية، وسخّرها لخدمته، فإلى متى تعود جذور ذلك؟!!.

يخصّص الله تعالى اجزاء كبيرة من القرآن الكريم للحديث عن قصّة موسى وقوم اسرائيل مع فرعون، ولطالما كنت أمَلّ من تكرار هذه الرواية في سور القرآن الكريم، لكن الامر اختلف مع بدايات الربيع العربي وما شهدناه من ‘الطغيان الشرقي’.

يُكرّر الله تعالى وصف فرعون ‘بالطاغية’: [اذهب الى فرعون إنه طغى].

ويحكي عن ظلم فرعون: [لأقطّعنّ ايديكم وارجلكم من خلاف، ثم لأصلّبنكم اجمعين]… [إن فرعون علا في الارض وجعل اهلها شيعاً، يستضعف طائفةً منهم، يُذبّح ابناءهم ويستحيي نساءهم، إنه كان من المفسدين].

ويصف عز وجل فلسفة الطغيان، وخطورة الاستجابة لها: [. . . قال فرعون، ما أريكم إلا ما ارى وما اهديكم إلا سبيل الرشاد]… [ونادى فرعون في قومه، قال يا قوم اليس لي ملك مصر وهذه الانهار تجري من تحتي، افلا تبصرون]… [فاتّبعوا امر فرعون، وما امر فرعون برشيد].

ويستدرك القرآن الكريم، فيذكّرنا ان قوم فرعون -ككلّ الاقوام- ليسوا سواء، وان منهم من لا يوافق الطاغية: [وضرب الله مثلاً للذين آمنوا امرأة فرعون، إذ قالت ربّ ابن لي عندك بيتاً في الجنّة، ونجّني من فرعون وعمله، ونجّني من القوم الظالمين].

ادّى انتشار الحريات في نهايات الخلافة العثمانية، الى انعتاق الشرق في القرن العشرين، وكسره لقاعدة العبودية التي تشبثت به على مدى التاريخ، اما في صدر الاسلام، فإنّ ‘المؤتمر السياسي’ لمجتمع المدينة يوم ‘سقيفة بني ساعدة’ وما تبعه من قيام دولة ناشئة انتشرت فيها الحريات، بما فيها حرية المعارضة، ونقد تصرفات الحاكم، والرقابة لسلوكه، ومحاسبته… كان سببه اقتراب المثال من الواقع، كما يقول الدكتور “امام عبدالفتاح امام” في دراسته القيّمة للطغيان الشرقي. المثال هو تعاليم الاسلام وآيات القرآن التي توجب العدل والشورى ورضا الناس عن الحاكم . . .، وتُحذّر من الطغيان -كما تشير الآيات السابقة وغيرها كثير-.

والواقع هو عهد “ابي بكر” و “عمر” والدولة الإسلامية التي بدأها الاول بخطبته غداة تولّيه للخلافة: (ايها الناس، إني قد وُلّيت عليكم ولست بخيركم، فإن احسنت فأعينوني، وإن اسأت فقوّموني)… وتمّمها “عمر” بخطبة خلافته ايضاً: (ألا من رأى منكم فيّ اعوجاجاً فليقوّمه، ما انا إلا احدكم . . .).

ولك ان تقارن تلك الدولة التي يحدد فيها الخليفة “عمر” حقوقه المالية بالقول: (لا يحلّ لي من مال الله الا حلتان، حلّة للشتاء، وحلّة للصيف، وقوت اهلي كرجل من قريش، ليس اغناهم . . .)، لك ان تقارنها بدولة “هشام بن عبدالملك” بعد اقل من مائة عام، عندما اصبحت ‘ملابس هشام’، ‘لا يحملها الا سبعمائة بعير، وكان مع ذلك يتقلّلها’!!!.

ما الذي جعل الواقع يبتعد عن المثال مع الزمن؟!

للأسف فإن المبادئ التي اتبعها ‘الراشدان’ اعتمدت عوامل فردية، واخلاقيات شخصية التزمت المثال، ولكنها لم تحوّله الى قوانين ومؤسسات وقواعد.

كل ذلك سينقلب تماماً، فبدلاً من اتباع المثال، سيتم استثماره واستثمار نصوصه لتكريس الاستبداد، فيقول “معاوية بن ابي سفيان”: (وُلينا عليكم بقدر الله)، في مفارقة لنهج الحكم المدني الذي اسّسه “ابو بكر” حين قال: (وُلّيت عليكم) ‘بشورى السقيفة يقصد’. حكم مدني ينسفه “معاوية” بـ ‘قدر الله’!! ثم يبني على انقاضه اركان دولته الجديدة ‘العضوض’ حين يصعد خطيباً ليقول: (ما وُلّيتها بمحبة منكم، ولا مسرّة بولايتي، ولكني جالدتكم بسيفي هذا مجالدة…).

فلسفة “معاوية” هذه تؤسس لحكم الفرد ‘الأوتوقراطية’ وليس للحكم الديني ‘الثيوقراطية’ كما يشير الدكتور “برهان غليون” في ‘النظام السياسي في الاسلام’، هذه ‘الأوتوقراطية’ ستستخدم الدين وتستثمره ‘لتتخذ له صفة قدسية تشارك بها الله، او تعطيه مقاماً ذا علاقة بالله’، والقول “للكواكبي”.

بما ان مجتمعنا الشرقي معتاد على العبودية على مدى التاريخ، فإنه سرعان ما نسي المثال، وانساق من جديد للسيد الجديد!!… حتى نجد شاعراً كـ “ابن هانئ الاندلسي” لا يتردد بمخاطبة الخليفة الفاطمي “المعز لدين الله” قائلاً:

ما شئت لا ما شاءت الاقدارُ           فاحكم فانت الواحد القهّارُ

وبخلاف المثال الاوروبي الذي حكمت فيه ‘الثيوقراطية’ وطغت، فكان الترياق: (اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسّيس) وافصلوا الدين عن الدولة. تبدو ازمتنا في الشرق اكثر حاجة لفصل الدولة عن الدين، كما يشير الاستاذ “معاذ الخطيب”.

بناءً على قدسية الحاكم، تم بناء نظرية فقهية متكاملة لشرعنة وصوله الى السلطة بالعنف ودون رضا الناس ‘نظرية الغلبة’، واصبح ذلك جزءاً من فقه اسلامي سياسي، لخّصه “يزيد بن المقفّع” ببلاغة، في خطبته القصيرة:

)امير المؤمنين هذا) واشار الى معاوية.

)فإن هلك ، فهذا) واشار الى يزيد.

)فمن ابى، فهذا) واشار الى سيفه!.

فقال له معاوية: (اجلس، فانت سيد الخطباء)!!.

تنبّه قادة الفكر والسياسة ايام الانعتاق في القرن العشرين، لخطورة استثمار الدين في السياسة، فهذا “مصطفى النحّاس باشا” احد قادة حزب الوفد المصري، وهو ‘المتديّن الورع’، يعرض عليه احد السياسيين ورقة برنامجه الانتخابي الذي صدّره بـ ‘بسم الله الرحمن الرحيم’، فيطوي “الباشا” الورقة ويعيدها لصاحبها قائلاً:

)لماذا تتحدث عن الله في برنامج انتخابي؟! عندما تذكر لفظ الجلالة في ورقة سياسية، تتحوّل فوراً الى دجّال يتاجر بعواطف الناس الدينية).

ما الذي اعادنا للعبودية بعد “ابي بكر” و “عمر”،؟! وبعد الانعتاق العشريني؟! لماذا رضخنا للغلبة ولم نعد للمثال؟! لا شك ان هناك خلل ما، خلل عميق وخطير يحتاج الى شجاعة في الطرح والتلقي… (يتبع).