د. حبيب حداد: مصير الوطن المهدد في غياب الإرادة الشعبية الموحدة

د. حبيب حداد: كلنا شركاء

المأساة السورية ماتزال مستمرة , وما تزال تتفاقم وتتعاظم في كل يوم اخطارها . والشعب السوري الذي انتفض قبل خمس سنوات ونصف ليتخلص من واقع الإستبداد والإستلاب والتغييب لينتقل الى الحياة الحرة الكريمة شأن بقية شعوب العالم يجد نفسه في غمار هذه التراجيديا , الإستثنائية في عنفها وعواقبها  والتي لم يعرفها اي شعب أخر منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية , امام مفترق طرق وامام خيارات لم تعد تتعلق بنوعية البديل الذي يرتضيه لواقعه القائم ,او المستقبل الذي ينشده تجسيدا للأهداف التي طرحتها انتفاضته الشعبية عند قيامها والتي قدم في سبيلها اغلى واجل التضحيات من دماء ابنائه ومن بنية مجتمعه ودولته ومن نسيجه الوطني وتراثه الحضاري المتميز والممتد في اعماق عصور التاريخ . نعم ولنصارح انفسنا نحن السوريين بحقائق هذا الواقع المر الذي وصلت اليه قضيتنا وبمعطيات هذا الوضع الذي نعيشه الآن اذا كانت لدينا الإرادة الجماعية لتجاوز هذا الواقع في استعادة ذاتنا كشعب موحد وانقاذ وطننا بروحه وهويته وكيانه المعرض للانقسام والتمزق والضياع . 

ولعل اول تلك الحقائق والمعطيات الخطيرة التي تهيمن على واقعنا اليوم , انه  وبعد انقضاء كل هذه السنوات على انطلاقة مشروع ثورة شعبنا الوطنية التحررية التي هدفت الى بناء مستقبل ديمقراطي عصري , فان اولوية وراهنية ما نواجهه  نحن السوريين  الأن مع الأسف لم تعد مسألة أو مهمة بناء  هذا المستقبل المنشود وانما  وقبل ذلك المحافظة على الكيان والوجود . وليت الأمر توقف عند حدود مهمة المحافظة على وجود  ووحدة كيان الشعب والوطن  بل ان الأمر تجاوز حدود ما كان يتوقعه اكثر المتشائمين عندما اصبح يتعلق بمصير الإنسان السوري ووجوده الشخصي بالذات , بعد أن اضحت خياراته .التي ليس له من خيارات سواها , تتراوح بين ان يصمد على ارضه ويظل هدفا محتملا في كل وقت لبراميل الإستبداد المتفجرة و لسكاكين مجموعات الإرهاب المتوحشة ,او اقتلاعه من أرضه ودياره ونزوحه وهجرته وتشرده في كل أصقاع المعمورة .

فصول التراجيديا السورية كما اسلفنا ما تزال متواصلة بكل عنفها واخطار نتائجها القريبة منها والبعيدة , التي وكما يعرف القاصي والداني , لم تعد تقتصر على سورية وحدها وانما على المنطقة بمجموعها  والمجتمع الدولي كله . فكيف وصلت الأمور الى هذه الحال التي لم نكن نتوقعها نحن السوريين وكيف خرج قرارنا الوطني من بين أيدينا ؟؟؟ وبعد ذلك ,بل وما يجدر بنا ان عيه ونعترف به  ما ذا كان دورنا واين هي حدود مسؤؤليتنا في الحال التي وصل اليها وطننا ؟؟؟ ام اننا  سنواصل كما فعلنا طوال السنوات الفائتة تغطية قصورنا وتجاهل مسؤوليتنا بتكرار خطاب ومواقف معارضاتنا الخارجية  التي كانت وما تزال حتى الساعة ترى بان مسؤولية ما وصلت اليه بلادنا اليوم انما تتحملها كاملة الدول التي طرحت نفسها صديقة للشعب السوري ثم تبين انها كانت تخدعنا وتضحك علينا عندما لم تقم بتنفيذ رغباتنا الملحة والمستديمة في اسقاط النظام القائم وتسليمنا بعده السلطة كما فعلت قبل ذلك في كل من العراق وليبيا وبلدان أخرى …..!!!!!

كلنا نذكر بلا شك كيف ان معظم تشكيلات المعارضات    السورية الخارجية المرتهنة للدول الإقليمية دأبت منذ الاشهر الأولى لانتفاضة الشعب السوري من اجل الحرية والكرامة والعدالة على تبشير الشعب السوري ,من خلال القنوات التلفزيونية التي فتحت لها ,بان ظلام اليل لن يطول وان فجر الحرية آت بعد اسابيع او اشهر معدودات واننا نحن السوريين سنستقبل عيد الاضحى المبارك القادم في اجواء الحرية والبهجة والسرور في دمشق الفيحاء. ومازلت اذكر شخصيا لقائي بذلك الضابط السوري  القيادي الذي كان قد انشق عن الجيش النظامي حديثا ولجأ بعدها الى بلد عربي مجاور عندما اخذ يوضح لي , وربما أيضا ليطمئنني , بان عملية انهاء النظام القائم في سورية  ستتحقق في اقرب وقت ممكن , وربما اقرب مما نتوقع جميعا . سألته ما اذا بالإمكان ان يشرح لي مبررات هذه الامكانية المتوفرة وهذا التفاؤل المفرط . فقال لي , ومن منطلق الثقة الأكيدة بي طبعا , قبل ايام التقينا كوفد بالجانب الأمريكي وقلنا لهم بصراحة اذا كنتم فعلا جادين في مساعدتنا فعليكم ان تستجيبوا لطلبنا . هذه خمس اهداف محددة للجيش السوري اذ قمتم بضربها وتدميرها فنحن مستعدون باكمال المهمة  والاضطلاع بدورنا المطلوب باسقاط هذا النظام خلال فترة لا تتجاوز الأسابيع الثلاثة بعد تنفيذ هذا الطلب. اتصلت به بعد مدة وسألته : ما ذا كان مصير طلبكم , فأجابني بان الجانب الامريكي اخبرهم انه بعد دراسة هذا الطلب رأوا عدم الموافقة عليه لأن ليس هناك حسب رايهم بديل جاهز بعد اسقاط النظام السوري الحالي , بديل يساعد في ضمان وتامين المصالح الامريكية في هذه المنطقة . وسألني عن وجهة نظري في هذا الموقف الامريكي الذي لم يستجب لطلبهم . قلت له ياصديقي انني افهم ان الموقف الأمريكي لابد ان يتاسس على التجاوب مع مصلحتهم الوطنية و قد كان بالنسبة لهم موقفا عقلانيا وطنيا ,اما موقفكم انتم وبغض النظر عن النوايا والمقاصد التي تحرككم فقد كان بالنسبة لنا نحن السوريين موقفا غير عقلاني وغير وطني في الأن نفسه .

وعندما تم التوافق الأخيربين الطرفين الامريكي والروسي  على وقف فصول هذه الحرب العبثية المدمرة التي تكاد تاتي على ما تبقى من مقومات وجودنا , كشعب ودولة وبشر , والتي يمكن ان تمهد في حال نجاحها واستمرارها للعودة الى مسار الحل السياسي , ذلك الاتفاق الذي لم تعلن كل نصوصه حتى الان , غير انها لا يمكن ان تظل طويلا في نطاق السرية والكتمان  وفي كل الأحوال وبما ان هذا الإتفاق يستند على قاعدة قرارات الشرعية الدولية بشأن المسألة السورية ,فان تعاملنا معه بارادة موحدة وواعية سيكفل امكانية تقاطع مصالح هاتين الدولتين مرحليا مع مصلحة شعبنا ., ولكن  ما الموقف الذي استقبلت به هذا الأتفاق معارضاتنا الخارجية التي تدعي لنفسها  شرعية تمثيل الشعب السوري ؟؟؟ لقد اخذت منذ لحظة توقيعه تجهد بمواقفها وحملاتها الإعلامية المحمومة وتنفيذا لمواقف الدول والجهات التي تستخدمهاعلى العمل والإتيان بكل ما من شأنه افشال هذا الاتفاق واجهاض اية خطوة في طريق تنفيذه  حتى بما يتعلق بتوفير المناخات الضرورية للبدء بتنفيذ الخطوات التمهيدية الاولى . ولعل فرحتهم الكبرى قد تتحقق اليوم اذا ما تأكد انهياره  !!! ولكن ما هو البديل الذي يطرحه هؤلاء الفرسان الصناديد الذي يواصلون خوض معاركهم اليومية الدونكيشوتية على مسارح الفضائيات التي سخرت مذ سنوات للوصول الى اهدافها المرسومة في لسفك كل ما هو مستطاع من دماء السوريين وتشفية احقادهم الدفينة في تدمير هذا البلد الذي  كان على الدوام قاعدة ومنطلق رسالة العروبة الانسانية المتحضرة ,مثلما كان على الدوام في موقع القيادة لمسيرة حركة التحرر العربية الهادفة لنقل مجتمعاتنا من حياة القرون ما قبل الوسطى الى مستوى العصر . ذلك كان وما يزال دور هؤلا ء الثوار الأدعياء في معاركهم الفضائية الخلبية الذي تركز على تنفيذ كل ماطلب منهم بهدف التحريض المستمر على انهيار الهدنة المؤقتة  وبالتالي افشال اتفاق وقف الحرب الأهلية السورية  . 

في الوقت الذي رحب هؤلاء بالتدخل التركي المباشر في شمالي سورية واحتلاله لأجزاء واسعة من تلك المنطقة بحجة تحريرها من داعش بينما يعرف الجميع  ان الغرض الأساسي المعروف لهذا الاحتلال هو مقاتلتة السوريين الأكراد . 

لم تتضح حتى الأن ابعاد ومدة هذا التدخل الذي تحتم  اسط  مقتضيات الموقف الوطني ادانته وشجبه بكل قوة مثلما كان ينبغي ادانة كل الاحتلالات  الأجنبية وكل انواع التدخلات الخارجية  في شؤون بلدنا الداخلية . ولعل اخطر ماتجلى في مواقف تشكيلات المعارضات السورية  الخارجية والتي اكدت مرة اخرى , في معظمها  ,انها لا تؤمن بالحل السياسي اساسا بل  انها ما زالت مرتبطة بالغاية التي وجدت من اجلها وهي استمرار المأساة السورية حتى استكمال تدميرها عن آخرها بشرا وشجرا وحجرا , فهذا لا يهم كثيرا في نظرهم اذ كما صرح بعضهم مرارا انه يمكن بناء سورية أخرى من جديد , ولكن وفق الهوية والماهية والشخصية  التي اليها يسعون . والا كيف نفسر اصطفاف تلك المعارضات والتحامها بكل حمية وحماسة مفرطة الى جانب جبهة النصرة – فتح الشام والى جانب جيش الفتح وغير ذلك من الكتائب السلفية الجهادية التي لا يختلف اثنان يمتلكا ن حدا ادنى من الموضوعية والنزاهة  بانها تفرعات لمنظمة القاعدة . فهل انكشفت الأن  وتعرت كليا ادعاءات هؤلاء عن حقيقة الواقع الذي تستروا عليه طويلا من خلال تسميته بالجيش الحر الذي عملت القوى الخارجية على انهائه , والذي عاد في نظرهؤلاء ليتقمص اخيرا في جبهة النصرة واحرار الشام والجبهة الشامية  والسلطان مراد ونور الدين الزنكي و..و…وغيرها والتي هي في جوهرها تفرعات واوتار متكامة في سيمفونية ملحمة الارهاب . ولذا فلا بد لكل مواطن سوري ان يتساءل عن حقيقة جبهة النصرة واختلاها في الغاية والوسية عن داعش وغيرها وعن اية علاقة لها باهداف الثورة السورية في بناء الدولة المدنية الحديثة اذا كانت هذه الجبهة ونظيراتها  , وان غيرت اسمها ورايتها ,لا تعتبر الديمقراطية  فحسب كفرا وضلالا ,وانما لا تؤمن بشيء اسمه سورية , وتستعيض عن ذلك بما ينسجم مع عقيدتها ومشروعها في استعادة دولة الخلافة بتسمية بلاد الشام وامارات الشام . فهل يمكن لأي توافق وطني عريض يستند الى ابسط مقومات الموقف الوطني وهو الاعتراف بهوية وماهية وطننا وطبيعة شعبنا ان يجيز مثل هذا التهادن او التوافق مع هذه المجموعات على عتبار اننا نلتقي معها في الهدف المرحلي المشترك وهو انهاء نظام الإستبداد الشمولي  القائم وبعد ذلك تفتح مجددا  ساحات الصراع والإحتراب المجهول الأمد حول  هوية وطبيعة اية دولة نريد  !!! 

وهكذا بدل القراءة الصحيحة لمعطيات الواقع الراهن الذي تعيشه بلادنا,  وتشخيص طبيعة وخطورة التحديات المرحلية الي تعصف بأسس كياننا الوطني ,وتحديد  احتياجات ومهمات تجاوز هذا الواقع والسير في طريق تحقيق تطلعات شعبنا المشروعة في التحرر والتنمية والديمقراطية ,و بدل الانطلاق من هذه الخطوة النوعية الضرورية لتحقيق اوسع اطار وطني شامل يرفع صوت شعبنا ويجسد ارادته الحرة في ضوء الحلول الدولية المطروحة , بدل ذلك تواصل معظم تشكيلات المعارضة الرئيسية الخارجية المشتتة والمتناحرة ,المتناقضة الرؤية والمتعارضة الارادة ,كما هو حال مؤتمر الرياض والهيئات المنبثقة عنه , تواصل سيرها في الاتجاه الخاطئ  و اتخاذ المواقف البعيدة عن المواقف الوطنية الواعية والمسؤولة التي تساهم في اطالة ماساة شعبنا وفي تبديد آماله بقرب انتهاء محنته . ويكفي في هذا المجال ان نتطرق واقعتين قريبتي الحدوث , أما اولاهما فكانت الموقف الذي قوبلت به الرؤية التي قدمها المنسق العام للهيئة العليا للمفاوضات لمجموعة الدول التي تسمى بأصدقاء سورية حول برنامج الحل السياسي في سورية تنفيذا لقرارات الأمم المتحدة ذات الصلة . تلك الرؤية التي اعتقد انها لأول مرة تنزل مواقف المعارضات السورية الخارجية من فوفق شجرة اللامعقول والمزايدة الخطابية وتضعها على ارض الواقع كمشروع يستحق الدراسة والنقاش برغم ما يمكن ان يتضمن من سلبيات او نواقص , فلقد قوبلت هذه الرؤية السياسية باشد عبارات الرفض والتجريم والاستنكار من قبل العديدين  حتى من اعضاء مؤتمر الرياض  ومن غيرهم كما الصقت بالرجل وبخاصة على صفحات التواصل الاجتماعي ابشع المواصفات والتهم الظالمة والمجحفة , لعل أهونها انه قد انكشف أخيرا كعميل للولايات المتحدة ولروسيا والنظام السوري باعتبار ان هؤلاء  المتهجمين يمثلون بمواقفهم وسلوكهم وبهلوانياتهم  تلك نقاء الثورة  وأنهم سدنتها المخلصون الذين يحرصون أبدا  على التمسك ببوصلتها وبخطها السليم !!!. اما الواقعة الأخرى قريبة الحدوث فهي المتعلقة بالموقف اللاوطني وغير المسؤول للأغلبية الساحقة من معارضاتنا الخارجية تجاه العدوان الغاشم على قطعات الجيش السوري قرب مطار دير الزور العسكري الذي قامت به طائرات التحالف الأمريكية والذي خلف عددا كبيرا من الضحايا والشهداء من ابناء شعبنا المنكوب ,ذلك الموقف الذي اتسم بصمت وتجاهل معظم المعارضات السورية افرادا وتشكيلات  ,او بترحيب وحقد وشماتة العديدين منهم ., فهل ياترى ان الجيش السوري هذا جيش راس النظام  ؟ ام هو جيش الوطن بمجموعه والمؤسسة الرئيسة من مؤسسات الدولة السورية التي ندعي الحرص عليها وتجنب انهيارها حفاظا على ما تبقى من كيان  هذه الدولة , لكي يتاح لاحقا اعادة ترميمها واصلاحها لبناء سورية المستقبل !!!

لك الله يا سوريه امام ما يواجهك من تحديات واخطار وجودية , في غياب الارادة  الشعبية الجماعية الموحدة , تحديات  وأخطارمحدقة  باتت تهدد اليوم مصيرك ومصير كل فرد من ابنائك بلا استثناء.!!!

اقرأ:

د. حبيب حداد: صراع الأجيال ومهمة بناء سورية الجديدة





Tags: محرر