عبد القادر عبد اللي: مؤشرات ولادة معارضة سورية جديدة

عبد القادر عبد اللي: المدن

عندما أعلنت “حركة أحرار الشام” قبل أيام قليلة مشاركتها في قوات “درع الفرات”، أثارت في الأذهان تساؤلات مهمة؛ فكيف تدخل هذه الحركة في عملية تؤمن لها قوات “التحالف الدولي” غطاء جوياً؟ ولكن قبل مضي وقت طويل، بدأت تتوارد الأخبار حول انشقاقات في صفوف الحركة أدت إلى خروج بعض الصقور منها، ولعل الانشقاقات والمراجعات يمكن أن تحدث على نطاق أوسع.

المعروف أن “حركة أحرار الشام” على علاقة قوية جداً بتركيا، ولتركيا أوراق ضغط مهمة على هذه الحركة، وإن كانت هذه العلاقة قد انتابها شيء من البرود في الفترة الأخيرة. ولعل هذا البرود، والخلافات الفكرية داخل الحركة، أرهقا الحركة، وأسسا لمرحلة تراجع تعيشها.

من الممكن القول إن طلب تركيا من الحركة الانضمام إلى الجيش السوري الحر في عملية “درع الفرات” تم بناء على حاجة هذه القوة العسكرية إلى مزيد من المقاتلين، إذ تقول التقارير العسكرية القريبة من الأركان التركية إن عدد أفراد “داعش” في منطقة الباب ودابق حوالي أربعة ألاف مقاتل، بينما لا يتجاوز عدد مقاتلي الجيش الحر المشارك في عملية “درع الفرات” 1800 مقاتل، منهم 1400 دربتهم القوات المسلحة التركية، والباقي جاؤوا من فصائل صغيرة.

ولكن الجيش التركي حشد 41 ألف مقاتل على الحدود قريباً من منطقة الباب تشكل الوحدات الخاصة العالية التدريب عمادها، ومسلحة بأحدث الأسلحة، وهكذا إذا قلنا إن بضع مئات وحتى ألفاً أو ألفين من مقاتلي “حركة أحرار الشام” مؤثرة، فإنها ليست الخيار الوحيد، وليست حاسمة في المعركة التي تريد تركيا تحقيق نتائج أكيدة فيها تقدمها للعالم كنموذج يحظى بالرضا من أجل الإقلاع بنماذج أخرى.

من الملاحظ أن “حركة أحرار الشام” كانت محط جدل حول تصنيفها ضمن المنظمات “الإرهابية”، وباتت تركيا تجد حرجاً بالدفاع عن هذه الحركة التي سبق ورفعت شعارات “الديموقراطية طريق التخلف” و”العلمانية كفر”.

وبينما ترفع الحركة هذه الشعارات، يدلى رئيس الحكومة التركية بن علي يلدريم، بتصريح بالتزامن مع انطلاق عملية “درع الفرات” قبل شهر من الآن أكد فيه على ضرورة العلمانية والديموقراطية من أجل المحافظة على وحدة الأراضي السورية. وقد احتار كثيرون في تفسير هذا التصريح، فأين هؤلاء الديموقراطيون الذين يعول عليهم بن علي يلدريم؟

عندما خرج الألف وأربعمائة مقاتل الذين دربتهم وسلحتهم وقادتهم تركيا، ودخلوا جرابلس، أظهروا انضباطاً طالما افتقدته الساحة السورية بكل أطرافها، فلم تُنقل أخبار السرقات “تحت اسم غنائم أو تعفيش” للمرة الاولى تقريباً في سوريا، ولم يتدخلوا في عقائد الناس، ولباسهم، وطريقة عيشهم.

نحن أمام تجربة عسكرية جديدة نشهدها لأول مرة في سوريا؛ هجمات منسقة، تقليل الخسائر البشرية إلى درجة كبيرة جداً، إفشال عشرات العمليات الانتحارية التي شنتها “داعش”، والأهم من هذا كله كسب الحاضنة الشعبية، وبدء الناس بعيش نوع من الحرية البسيطة التي افتقدوها تحت حكم كل السلطات على اختلاف أنواعها، والأهم من هذا كله دخول الإعلام المعارض، ونقله صورة مختلفة تماماً بكل حرية، ومن دون مضايقات.لا يمكن قراءة قرار “حركة أحرار الشام” بالانضمام إلى “درع الفرات” بأنه مجرد طلب مؤازرة، وتلبية المؤازرة، ولا يمكن قراءته أيضاً بمعزل عن الدور التركي.

الاتصالات التركية-الروسية على قدم وساق في الموضوع السوري، وحتى الآن هناك عبارة واحدة تستخدم حول نتائج هذه اللقاءات، وكان آخرها إثر زيارة رئيس الأركان الروسية لنظيره التركي: “أجرينا مباحثات بناءة”. صحيح أن هذا التصريح لا يعني شيئاً، ولكننا إذا قارناه مع ما كان يقال قديماً، قبل أزمة إسقاط تركيا الطائرة الروسية، وحتى إثر لقاء الرئيسين بوتين وأردوغان في بطرسبورغ لوجدنا فرقاً هائلاً، فقد كانت تستخدم عبارة: “تربط بلدينا علاقات مهمة، ولكننا مختلفون في الملف السوري”.

من الواضح أن تركيا غيّرت من تناولها للملف السوري بشكل كبير، وباتت تعمل أكثر مما تتكلم، ومثلما يمكن إلقاء اللوم عليها، وتحميلها وزر أخطاء كثيرة ارتكبتها في تناول هذا الملف، لا يمكن أيضاً استبعاد سياسة الفصائل العسكرية، وارتكابها من الأخطاء ما لا يمكن الدفاع عنه، وهذا ما كان يحرج تركيا كثيراً باعتبارها الداعمة الأساسية لهذه الفصائل.

لقد بدأ العمل بنواة الجيش السوري الحر الذي دخل جرابلس، وبدأت تشارك مع هذه النواة بعض الفصائل الأخرى، ولكن “أحرار الشام” باعتبارها الفصيل الأكبر، والأكثر حرجاً لابد وأن تتخذ خطوة في تحديد خيارها.

يبدو أن الخيارات باتت تضيق أمام تركيا بعدما سرب عن انسجام في الموقفين الروسي والأميركي، وتريد أن توسع هذه الخيارات، وتحصل على ورقة أقوى في رسم الحلول للمستقبل بين القوتين الأكثر تأثيراً، وهذا الأمر لا يتم إلا بقوة عسكرية لها سيطرتها على الأرض، ووزنها، وتجربتها التي تدعو الجميع لرؤيتها..

لا يمكن تخيّل “حركة أحرار الشام” بمعزل عن الراعي التركي، وقد بدأت المرحلة بابتعاد بعض صقور التشدد الديني، ولكنها لن تنتهِي عن هذه النقطة. فالمطلوب هو عودة الحركة إلى الخط الثوري، وهذا يتطلب مراجعات شاملة، ويمكن أن يؤدي إلى انشقاقات أوسع.

لم تأتِ هذه التطورات فجأة، فقد أوفدت الحركة قبل حوالي شهر مندوباً لها التقى مع بعض المثقفين والسياسيين السوريين في إسطنبول، وقدم المندوب مقولات حول الديموقراطية والعدالة استغربها كثيرون من الحاضرين، واعتبروها تكتيكات علاقات عامة، ولكن عندما نقرنها بما يجري الآن، فهي تخرج عن كونها مجرد تكتيكات.

إذا كانت عملية “درع الفرات” نقطة فارقة في ما يجري في سوريا، فإن نفض “حركة أحرار الشام” عن كاهلها تبعات التشدد، وعودتها إلى روح الثورة السورية سيشكل نقطة فارقة أخرى، وهي مؤشر ولادة معارضة عسكرية مقبولة دولياً، ويمنح تركيا فرصة قوية لمفاوضة الروس والأميركان على تحقيق مصالحها. وبالطبع يمكن لهذه المصالح أن تلتقي مع مصالح كثير من القوى الثورية في سوريا.

اقرا:

عبد القادر عبد اللي: هل سوريا سبب التوتر الأميركي-التركي؟